أوراق السياسات

كانون الثاني 18, 2017

الخطاب الديني في مواجهة عصر النهايات والتحولات

إبراهيم غرايبة

يمكن التأريخ للخطاب الإسلامي المعاصر بما هو الاستيعاب المعاصر لقضايا الدين والدولة ببداية القرن التاسع عشر عندما بدأت الدول الإسلامية تحاول اقتباس النموذج الغربي المعاصر للدولة الحديثة كما حدث في مصر محمد علي والدولة العثمانية وتونس وكثير من الحواضر الإسلامية، وتطورت الظاهرة (الخطاب الإسلامي السياسي) وتعددت مساراتها واتجاهاتها ومرّت في تحولات عدة حسب تحولات وتطورات الدولة الحديثة في عالم العرب والإسلام، وفي ذلك فإنها تحولات تعكس الحالة الاجتماعية والحضارية وتغيراتها وأزماتها، وهي باختصار أزمة الدولة الحديثة نفسها، ويمكن القول أيضا إن أزمة الإسلام السياسي وانسداد أفقها تؤشر إلى أن الدولة الحديثة تواجه الأزمة نفسها.

ويمكن عرض هذه التحولات والاتجاهات في الخريطة التالية:

1-    إصلاح الخلافة والسلطة التي كانت امتداد للقرون الوسطى وتقوم على الحق الإلهي والغلبة لأجل استيعاب الاتجاهات السياسية والفلسفية الجديدة في تنظيم الدول والمجتمعات، مثل الدستور وفصل السلطات وبناء المؤسسات العامة للتعليم والرعاية، واستعادة أو اقتباس الاتجاهات العقلانية في  فهم النصوص وتأويلها، ومن رواد هذه المرحلة رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخير الدين التونسي، وعبد الرحمن الكواكبي.

2-   العمل لأجل استعادة أو استئناف الخلافة الإسلامية بعد إنهائها في استنبول، ومن أمثلة هذا الاتجاه رشيد رضا، وشكيب ارسلان، ومحب الدين الخطيب، وجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا عام 1928 وقدمت هدفها بوضوح في استئناف الخلافة ونهضة الأمة الإسلامية.

3-   الاستغناء عن الخلافة وفك العلاقة بين الدين والسلطة، وأوضح وأهم مثال على هذا الاتجاه علي عبد الرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم الذي صدر في عام 1925. وفي امتداد هذا الاتجاه وتطوره وتبلوره فيما يمكن وصفه “العقلانية الإسلامية” يمكن إدراج عدد غير قليل من المفكرين والمثقفين، مثل نصر حامد أبو زيد، وطه حسين، وعبد الله النعيم، ومحمد محمود طه، ومحمد أركون، ووائل حلاق، وجورج طرابيشي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الوهاب المسيري، وعبد المجيد الشرفي، وعبد المجيد الصغير، وهشام جعيط، وطه عبد الرحمن، ومحمد عابد الجابري، وأحمد صدقي الدجاني، ومحمد الطالبي، ووحيد الدين خان،..

4-   فكر النهضة، برغم أن هذه الاتجاه يتقاطع مع الاتجاه السابق، وبرغم أنه يتضمن اتجاهات وأفكارا مختلفة ومتباينة لكن يمكن ملاحظة أنها اتجاهات وجهود كانت تركز على النهضة والتقدم أو الإصلاح اكثر من انشغالها بالعلاقة بين الدين والدولة، ومن رواد وأصحاب هذا الاتجاه: سيد قطب في المرحلة السابقة لعام 1954 والتي يعبر عنها كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام، ومصطفى السباعي (اشتراكية الإسلام) وحسن الهضيبي (دعاة لا قضاة) ومالك بن نبي وخاصة كتابه شروط النهضة، وسيد دسوقي: البعث الحضاري، وإسماعيل الفاروقي: إسلامية المعرفة، ورحيل غرايبة: الحقوق والحريات وفي الشريعة الإسلامية وأحكم الجنسية والمواطنة

5-    تطبيق الشريعة الإسلامية والدور الديني للدولة

رغم أن هذا الاتجاه لم يدرس دراسة كافية، ولم تلاحظ بعد محاولات التأريخ والتحليل للحالة الدينية أثر عمليات تطبيق الشريعة وإحلالها في القوانين والتشريعات والمؤسسات والحياة اليومية والدور الديني الواسع للدولة الحديثة، ولعله دور غير مسبوق في التاريخ الإسلامي، حيث أنشأت الدول الحديثة وزارات ومؤسسات قائمة على الشأن الديني وكليات علمية في الجامعات لتدريس العلوم الدينية وتقديم البحوث والدراسات وكذلك العدد الكبير من رسائل الماجستير والدكتوراه، لقد ساهمت السلطات السياسية في إنشاء وتطوير خطاب إسلامي وحالة دينية مؤثرة، ولعلها أكبر وأهم مصدر في تشكيل الظاهرة الدينية القائمة اليوم، بما في ذلك الحالة المتمردة والمناوئة للسلطات السياسية.

6-   الأسلمة والإسلامية

يقصد بهذا الاتجاه العمليات الاجتماعية والاقتصادية غير الحكومية لأجل الاستيعاب الإسلامي للحياة المعاصرة، مثل الجماعات الإسلامية الجديدة، والمؤسسات التعليمية والإعلامية والاقتصادية “الإسلامية” والخطاب الفكري والسياسي المتمثل في شبكة من الدراسات والمحاولات والأعمال، والتي أنشأت حالة دينية واسعة وممتدة في الأسواق والمجتمعات.

7-   البديل الإسلامي والصراع

تؤشر فكرة البديل الإسلامي إلى مؤسسات وكيانات اجتماعية واقتصادية “إسلامية” تشكل بديلا للمؤسسات الأخرى القائمة والتي تعتبر “غير إسلامية” مثل المدارس والأندية والبنوك والمنتجعات السياحية، وكذلك انظمة واتجاهات اللباس والطعام والبيوت والعمارة، وفي ذلك يتشكل صراع اجتماعي سلمي بين النموذجين، الموصوف أحدهما بأنه “إسلامي” والآخر “غير إسلامي”

8-   البديل الإسلامي والخروج من المجتمع والانقسام الاجتماعي

تؤشر هذه الحالة على نموذج “إسلامي” انفصالي عن المجتمع والبيئة المحيطة، وهي تختلف عن الحالة السابقة في طبيعة ومستوى صراعها، إذا أنها تأخذ طابع العنف المعنوي والمادي أحيانا، والكراهية والاعتداء والرفض للآخر الموصوف بأنه “جاهلي” وبرغم أنه تعبير غير محدد ابتدعه سيد قطب ثم بلوره محمد قطب في كتابه “جاهلية القرن العشرين” لكنه يعني عمليا ضد الإسلام أو الكفر العملي وإن لم يقل أصحابه صراحة بكفر من ليس سواهم، وطور هذا الاتجاه في تجمعات ودراسات جامعية وكتب مهمة مفاهيم واتجاهات جديدة ومؤثرة في الحالة الدينية الاجتماعية، مثل الولاء والبراء والحاكمية والمفاصلة الشعورية واستعلاء الإيمان،…

9-   السلفيات والأصوليات “استعادة النماذج المبكرة للإسلام”

بدأ “البعث” السلفي في القرن الثامن عشر تجمعا سياسيا واجتماعيا محدودا في نجد في الجزيرة العربية، لكنه انتشر وازدهر سريعا وبقوة بعد سقوط الخلافة العثمانية، ثم تضاعف انتشاره وتأثيره في سبعينات القرن العشرين (ربما ردّا على هزيمة حزيران 1967) وصعد في تسعينات القرن العشرين ليتحول مع بداية الالفية الثالثة إلى تحدّ عالمي يشغل العالم.

وبرغم أن السلفية ظلت فترة طويلة حالة سلمية، تمثل اتجاها محافظا في المجال الديني والاجتماعي وحليفا سياسيا للسلطات، لكنها تحولت إلى حاضنة ومنشئة لمتوالية من الجماعات القتالية والمتطرفة تطرفا غير مسبوق.

10-  الديمقراطية الإسلامية

طور الاتجاه الإسلامي السياسي في جماعة الإخوان المسلمين والجماعات المناظرة للإخوان في تركيا والقارة الهندية وشرق آسيا نموذجا ديمقراطيا، يعبر عنه بوضوح في عالم العرب راشد الغنوشي  في كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية وفي تجربة حزب النهضة الذي أسسه ويرأسه الغنوشي في تونس، وحسن الترابي في كتابه السياسة والحكم بين الأصول والواقع إضافة إلى التجربة السياسية الواقعية للإخوان المسلمين ثم الجبهة الإسلامية في السودان برئاسة الترابي، وتجربة الإخوان المسلمين في المغرب (العدالة والتنمية) وحزب العدالة والتنمية في تركيا، إضافة إلى مشاركات سياسية عديدة للإسلام السياسي في مصر والاردن وباكستان وإندونيسيا وماليزيا والكويت، …

11- الفوضى الدينية والتمرد والخروج على الدول والمجتمعات

تطور جزء كبير من الحالة الدينية المعاصرة إلى عنف دامي وصراع مسلح وأهلي طاحن في بلاد عربية وإسلامية كثيرة، كما حدث في مصر منذ منتصف التسعينات، وفي الجزائر طوال عقد التسعينات، وفي العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا واليمن وإيران وطاجيكستان، وفي عمليات القتل والتفجير والاعتداءات والمنتمية إلى اتجاهات ومشاعر وتنظيمات إسلامية والتي تحدث في أنحاء واسعة في العالم.

12-  الأزمة والطريق المسدود

تمثل حالة  التطرف والكراهية والعنف والفوضى والصراعات الدينية والأهلية الطاحنة اليوم والتي تجتاح عالم العرب والمسلمين أزمة عميقة للخطاب السياسي الإسلامي وتحديا قد تعصف به، أو تجعله يعيد صياغة نفسه صياغة جديدة مختلفا جذريا عما كان عليه الحال منذ اوائل القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، فمن الواضح أنها أزمة لا يمكن مواجهتها إلا بسلسة من المراجعات الشاملة في الخطاب الديني نفسه وفي تطبيقاته كما في المنظومة الاجتماعية والاقتصادية التي أنشأت وشكلت هذا الخطاب والتي هي أيضا تواجه تحديات النهاية والتحولات.

تبدأ مواجهة التطرف بتفكيك شبكة عميقة مؤسسية وتعليمية واقتصادية ترعاها الدول والمجتمعات والشركات، قائمة على «الأسلمة». لقد تشكلت متوالية هائلة ومعقدة من المؤسسات والكليات والمناهج التعليمية والأسواق والبنوك والشركات، ولم يعد ممكناً وقف هذا التطرف المتنامي إلا بالعودة إلى مبتدأ «الأسلمة» التي اشتعلت في العالم العربي والإسلامي. ذلك أن ما تقوم به الأنظمة في مواجهة التطرف لا يختلف عن الانشغال بإطفاء الحرائق من دون وقف مصدر اشتعالها، وذلك كخزان هائل يتدفّق منه الوقود فيزود الحرائق المشتعلة وينشئ حرائق جديدة بلا توقف. وسيظل ما تفعله السلطات والمجتمعات في مواجهة التطرف مهمة سيزيفية أبدية ومستحيلة.

بدأت منظومة «الأسلمة» وما نشأ عنها من جماعات وأنماط جديدة من التدين السياسي والعنفي ومن تدمير المؤسسات الدينية العلمية والروحية التي كانت قائمة وتعمل لقرون عدة، بالتحول من التدين إلى الأسلمة، أو من التأثير في الأفراد والمجتمعات والمؤسسات القائمة على أساس من الدين إلى تغييرها أو إنشاء منظومات بديلة مختلفة عنها جذرياً تحل مكان المنظومة «الجاهلية» أو تصارعها وتنافسها. هكذا صارت لدينا بنوك إسلامية وكليات جامعية للصيرفة الإسلامية وإعلام إسلامي وكليات ودراسات جامعية للإعلام الإسلامي، وكذلك الحال في الحكم والسياسة واللباس والطعام والفنون. وصارت في كل بلد عربي وإسلامي منظومات مؤسسية وفكرية ناشطة وموازية للمنظومات القائمة أو بديلة لها أو منافسة. ومن المفارقات المحيرة، أنها منظومات أنشأتها الأنظمة نفسها ورعتها، وهكذا فالطلاب يدرسون في الجامعات الرسمية التابعة للدول، والتي تنفق عليها من الموارد العامة أنظمة «إسلامية» تعتبر الأنظمة القائمة والمطبقة كفراً وجاهلية يجب تغييرها، وتقدّم في ذلك دراسات وأطروحات جامعية ومقررات ومناهج دراسية تُفرض على طلاب المدارس والجامعات. وماذا أفضل من ذلك للتطرف والجماعات المتطرفة لتحشد المؤيدين والأعضاء والمناصرين والمقاتلين أو تعمل في أمان وسلام في المساجد والجامعات والمدارس، وتهيئ لهم الحكومات إضافة الى ذلك بيئة علمية وبحثية لتحويل هذه الاتجاهات إلى أفكار متماسكة ودراسات علمية ورسائل ماجستير ودكتوراه!

أن تكون في القرآن أحكام واجبة التطبيق في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو توجيهات عامة، لا يعني ذلك أن هناك نظام حكم إسلامياً، أو نظاماً اقتصادياً إسلامياً، أو صيرفة إسلامية. وتطبيق أحكام قرآنية في التشريع والحياة العامة لا يعني ذلك دولة إسلامية، وعدم تطبيقها لا ينفي الإسلام عن الدولة أو القيادة السياسية للدولة، ذلك أن الدولة، أية دولة، لا يمكن وصفها بأنها إسلامية أو يهودية أو مسيحية أو بوذية. فحين نقول دولة ملكية أو جمهورية أو عسكرية، فهل تكون هذه إسلامية أم غير إسلامية؟ وإذا كانت تطبق نظام ملكية الدولة للموارد والمؤسسات والخدمات الأساسية، أو كانت دولة تعتمد نظام السوق أو نظاماً مختلطاً، فهل تكون إسلامية أم غير إسلامية؟ كذلك فتحريم الربا لا ينشئ نظاماً مصرفياً إسلامياً: حسناً، إذا منعت السويد الربا، فهل يمكن وصف نظامها الاقتصادي أو المصرفي بأنه إسلامي؟ ولمّا كانت الدول الشيوعية السابقة تطبّق نظاماً اقتصادياً غير ربوي، فهل نقول إنها كانت إسلامية؟ وللمناسبة، ما الربا؟ ومن قال إن البنوك القائمة ربوية؟ وكيف صارت البنوك المسماة إسلامية إسلامية؟

وهكذا، فبذل الجهود العلمية والمؤسسية لإقامة أنظمة إسلامية ليس سوى عمل ضد الذات ننشئ لخدمته وتطويره مؤسسات ننفق عليها من الموارد العامة، وليس ذلك مطلباً دينياً ولم يأمر به الله، لكننا في ذلك نرعى التطرف ونمنحه بيئة مشجّعة وآمنة.

وأخيراً، كيف يمكن تنظيم الشأن الديني والمؤسسات الدينية والتعليم الديني من دون تناقض مع الدين أو متطلبات الدولة الحديثة، ومن دون رعاية للتطرف