هل ثمة ما يميز معان عن بقية مناطق الأردن، وهل يمكن أن نعزو الأحداث المتلاحقة التي تكررت في المدينة على مدى السنوات الماضية إلى “خصوصية” تتميز بها المدينة عن غيرها من المدن الأردنية،
تقرير “معان: أزمة مفتوحة” يسعى للاقتراب من الإجابة النهائية عن هذا التساؤل. ولهذه الغاية، فقد تم توظيف منهج متعدد الحقول للإحاطة بجميع جوانب المشكلة قيد الدراسة والتي يتداخل فيها العامل الأمني السياسي مع العامل الاقتصادي والاجتماعي من ناحية، ومع السلوك القيمي من ناحية أخرى.
ولقد استخلص التقرير أن ظاهرة الاحتجاج العنيف في معان ليست نتيجة عامل واحد فحسب، كما ساد الانطباع، وخلصت إليه بعض الدراسات السابقة، بل هي ناجمة عن جملة من العوامل المتداخلة،.
فعلى الصعيد الاقتصادي الاجتماعي، أظهر التقرير أن هناك بعض المؤشرات التي يمكن أن تميز المدينة عن غيره، إلا أن عناصر التميز تلك لا يمكن أن تفسر إلا جانبَ محدودَ من الأحداث التي وقعت في المدينة.
أما على الصعيد الاجتماعي، فقد أظهرت التركيبة العائلية والعشائرية وضعَ فريدَ في معان يمكن أن يفسر جانبَ من ردود الفعل الجمعية، إذ تم استعراض سياق التحولات الاجتماعية بمنظور تاريخي، وتم ربط ذلك مع منظومة القيم السائدة في أوساط المدينة قياسَ إلى بقية أجزاء المملكة.
ولا يمكن إنكار أن هناك أوضاعَ خاصة في معان، إلا أن تسلسل الأحداث الذي استعرضه التقرير لم يكن ممكنَ تفسيره وفقَ لتلك الخصائص، في حين أنه قد برزت مسائل تتعلق بآلية التنسيق بين أطراف الحكم في المملكة كعنصر مهم في تفسير سياق الأحداث. كذلك فإن النظر إلى مدينة معان كمشكلة أمنية مجردة عن أبعادها الأخرى، لم يساهم في إيجاد حلول جذرية تخفøف من حدة الأحداث.
ولتجاوز تكرار الأحداث، سواء في معان أو في أنحاء أخرى من المملكة، فإن التعامل مع “معان” يأتي ضمن منظار شمولي يرى المشكلة بأبعادها كافةَ، إذ تبيøن أن سوء إدارة الأزمات أحيانَ يفاقم بعض المشاكل ويعمقها.
ومع أن معان مدينة حظيت وما تزال تحظى بالاهتمام الرسمي، إلا أن تجارب فاشلة مثل تجربة مصنع الزجاج، قد ألحقت الأذى بثقة أهالي المدينة بالحكومة التي كانت تسعى لتحسين الأوضاع الاقتصادية، فجاءت نتيجة ذلك الجهد عكسية. وعلى النقيض من ذلك، فإن تجربة جامعة الحسين الحديثة تمثل بوادر قصة نجاح.
وتوصل التقرير إلى أن العلاقة بين أهالي المدينة والدولة لا يمكن وصفها بأنها صحيøة، إذ تبين أن هناك خلافَ حول من يمثل معان لدى أجهزة الدولة، فهل هي النخب المحلية مثل اللجنة الشعبية في المدينة، أم أنها الزعامات التقليدية التي تسكن العاصمة عمøان، والتي كانت تاريخيَ هي حلقة الوصل بين معان والحكومة، والآن، هل يتغير الوضع بعد انتخاب أهالي معان لممثليهم في مجلس النواب،بحيث وتصبح العلاقة أكثر وضوحَ وشفافية،
وبشكل عام فإن من الصعب فصل معان عن السياق الوطني، إذ تبقى التنمية الاقتصادية والسياسية مطلبَ عامَ، ودون إحداث تلك التنمية يبقى الوضع مرشحَ لأن يشهد أحداثَ جديدة قد تأخذ أشكالا متعددة، من هنا جاء عنوان التقرير “معان: أزمة مفتوحة”.
ازداد الاهتمـــام بظاهرة الاحتجاج العنيف في مدينة معان، إثر أحداث تشرين الثاني 2002 من قبل مؤسســات بحثيــة أكاديمية وصحفية محليــة ودوليــة. ومن الجهات التي تناولــت الأحداث وأوضاع المدينـة بالدراسة كان تقرير مجموعة الأزمات العالمية International Crisis Group، الذي جاء وصفيَ أكثر مما هو تحليلي، وبدأ بمعالجة موضوع الأحداث من حيث انتهت، ولم يضع أحداث معان في سياقها الاجتماعي والاقتصادي، كما لم يقارن المدينة مع بقية أنحاء المملكة لتلمس مواطن الخصوصية في مدينة معان إن وجدت. أما التقرير الآخر، فقد صدر عن جامعة الحسين ويتعلق بالواقع الاقتصادي والاجتماعي للأسر في محافظة معان، حيث قامت الجامعة بإجراء مسح وإصدار بيانات تفصيلية مهمة تتعلق بالمدينة، فيما ترك الجانب التحليلي للمهتمين والباحثين. ويأتي هذا التقرير استكمالَ للمحاولات السابقة لفهم طبيعة ما حدث في مدينة معان.
أما التقرير الذي بين أيدين، فهو يقدم تقييمَ وتحليلَ لمختلف الجوانب ذات الصلة بالاندلاع المتكرر لأحداث العنف التي شهدتها مدينة معان منذ العام 1989. ويبتعد التقرير عن مسألة التأطير النظري ضمن محاولة الاقتراب من الواقع، وتحليل أبرز مؤشراته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والربط فيما بينها لتوضيح ما اصطلح التقرير على تسميته بـ “الواقع المعاني”. وسيتم التركيز على تحليل الأزمات التي شهدتها معان للتعرف على مسبباتها الحقيقية، والتوصل بعد ذلك إلى الملاحظات الختامية التي قد تساعد المسؤولين على إيجاد حل لهذه الظاهرة من جهة، وعلى تحاشي تكرارها مستقبلَ في معان أو في أماكن أخرى من المملكة من جهة أخرى.
وينقسم هذا التقرير إلى خمسة أجزاء، حيث يقدم الجزء الأول لمحة تعريفية عامة عن محافظة معان، فيما يسعى الجزء الثاني منها لتشخيص الواقع الاقتصادي الحيوي في المدينة، وذلك في إطار تحديد العوامل التي ساهمت في بروز ظاهرة الاحتجاج العنيف، ودحض بعض الانطباعات المتداولة عن الواقع المعاني أو تعزيزها. وإلى جانب ذلك يهدف هذا الجزء إلى تحديد ما إذا كانت مدينة معان تختلف عن باقي أنحاء المملكة، وما إذا كانت تتمتع بخصوصية أو مزايا معينة لا تتوافر في مناطق أخرى في المملكة.
أما الجزء الثالث من التقرير فيتناول البناء الاجتماعي لمدينة معان، إذ يتطرق للتحالفات العشائرية والتوجهات القيمية للمدينة. ويساعد هذا الجزء في التعرف على دور هذه التركيبة الاجتماعية والتحالفات العشائرية في تشكيل ردود الأفعال الجماعية لأهالي مدينة معان من جهة، وفي كيفية تسيير الأمور الحياتية اليومية للأهالي في الفترات العادية وكذلك عند حدوث الأزمات من جهة أخرى.
ويشتمل الجزء الرابع من التقرير على تاريخ الأزمات في مدينة معان منذ عام 1989 حتى الأزمة الأخيرة في تشرين الأول 2002، ويقدم التفسيرات والتحليلات لهذه الأزمات. ويستهدف هذا الجزء تحديد الأسباب الأساسية لهذه الأحداث وتسلسله، وكذلك العقبات الجوهرية التي تقف في طريق إيجاد حل لهذا المشكلة.
ويقدم الجزء الأخير من هذا التقرير الملاحظات الختامية، كما يعرض مدخلَ إلى الحلول المقترحة لتجاوز أزمات مشابهة في المستقبل استنادَ إلى التحليل الذي يقدمه التقرير.
أما المنهجية التي اعتمد عليها التقرير فتتمثل في اللقاءات الشخصية مع الأطراف ذوي العلاقة بالأزمة بما فيها لقاءات مع مسؤولين حاليين أو سابقين في الدولة. وكذلك تم الاستناد إلى كم كبير من البيانات الرسمية. فضلَ عن ذلك، قام مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية بإجراء مسح للتعرف على منظومة القيم السائدة في معان. إضافة لذلك اعتمد جزء من التقرير على المنهجية الأنثروبولوجية المتمثلة بالملاحظات بالمشاركة، من خلال معايشة فريق البحث بعض أهالي معان لفترة من الوقت.
وساهم في إعداد هذا التقرير عدد من المتخصصين في العلوم الاجتماعية مثل علم الاجتماع والاقتصاد والقانون والعلوم السياسية والأنثروبولوجي والتاريخ، واستخدموا منهجيات متعددة كل حسب اختصاصه الدقيق. لذلك يتسم التقرير بأنه متعدد الحقول Multidisciplinary ولم يتبع منهجَ موحدَ أو مدخلَ نظريَ معينَ يقود إلى رسم الاستنتاجات. وما أملى هذا المنهج البحثي هو طبيعة المشكلة قيد البحث التي تستهدف الإجابة عن سؤال التقرير الأساسي: “لماذا تتكرر أحداث العنف في معان بالذات”