حزيران 11, 2012
في ظل السعي لتعزيز مناخ الديموقراطية والانفتاح السياسي، يأتي الاهتمام بأوضاع البلديات التي تعتبر مكونا أساسيا للحكم المحلي في الأردن. ومنذ بدء تجربة الدمج والتعيين في البلديات في الأردن، فإن النظر إلى تلك المسألة كان يتم بمنظارين: يؤيد الأول نهج الحكم المركزي وإحكام قبضة المركز، ويعزز الثاني نمط توسيع المشاركة المحلية في اتخاذ القرارات وتحمل المسؤوليات. وينجم هذا التباين عن غياب رؤية واضحة لدور مؤسسات الحكم المحلي ضمن منظور وطني شامل. إلا أن كلتا النظرتين كانت تستهدف تحسين الأداء، وإخراج البلديات من أزمتها.
وفي حالة الأردن، فإن هناك شبه إجماع على أن البلديات كانت تمر في أزمة قبل البدء بمشروع الدمج والتعيين عام (2001)، مما برر، إلى حد كبير، الشروع في تلك العملية التي استهدفت إصلاح وضع البلديات المالي، وتعزيز أسس الحكم المحلي.
وقد طغى الجانب المالي والإداري ضمن مشروع التحول على الأبعاد السياسية والاجتماعية، إذ تضمنت استراتيجية إعادة الهيكلة محاور تشريعية ومالية، وخلت من أية مضامين اجتماعية أو سياسية توضح اهتمام القائمين على المشروع بتلك الجوانب.
ويتناول هذا التقرير جذور وعوامل أزمة البلديات التي تفاقمت تحت مرأى ومسمع الحكومات المتعاقبة التي كانت وما زالت تتحكم ببنود الإنفاق واتخاذ القرارات المهمة. ورافق ذلك شيوع نمط من التساهل والاسترضاء من جانب المركز في علاقته مع البلديات. وأفضى ذلك في النهاية إلى أزمة مالية لم تعد فيها البلديات قادرة على مواصلة أعمالها.
ومن خلال رصد العلاقة بين الوزراة والبلديات، اتضح غياب الرؤية الاستراتيجية للحكومة المركزية حول الحكم المحلي. ولم ينظر الى البلديات باعتبارها ركنا أساسيا في مأسسة المشاركة في اتخاذ القرارات، وإشاعة الديموقراطية، بل اعتبرت، في أغلب الأحيان، وحدات خدمية لا شأن لها بمضامين المشاركة السياسية. هذا التوجه العام يفسر تحول البلديات جزئيا إلى مراكز للعون الاجتماعي، وليس مواقع لتقديم الخدمات على أساس الكفاءة الإنتاجية، الأمر الذي أدى إلى تراكم المديونية، وتضخم الجهاز الوظيفي، وتخصيص ما يزيد على (50%) من إيرادات البلديات لبندي الأجور، والرواتب.
كذلك تم تحجيم الدور الذي يمكن أن تقوم به البلديات تجاوزاَ لما ينص عليه قانونها، فبات المركز يقدم الكثير من الخدمات للمواطنين مباشرة، الأمر الذي أضعف العلاقة بين البلدية ومواطنيها، وأسُس لعلاقة مباشرة بين المركز والمواطنين. هذه السياسة أدت لفقدان روح المبادرة المحلية وإضعاف قدرة البلدية على فرض رسوم جباية أو ضرائب محلية، بحيث تصبح البلدية مسؤولة مباشرة أمام مواطنيها.
واستجابة لهذا الوضع، بادرت وزارة الشؤون البلدية بمشروع الدمج والتعيين للتعامل مع تداعيات أزمة تنامت ككرة الثلج. ولم يتم الاعتراض على المشروع بالمطلق، بل تم توجيه سهام النقد للمشروع في جانب التعيين منه، حيث أقر كثيرون ضرورة الدمج للنهوض بسوية العمل البلدي. وفي التطبيق العملي للمشروع، لم يؤد عدم وضوح المعايير إلى رسم استراتيجية ورؤية جديدة للحكم المحلي تعالج جذور الأزمة السابقة، بل على العكس، أخذ المشروع صفة “الاستعجال والمرحلية” أكثر من صفة “الاستراتيجية”.
وقد تمت صياغة “استراتيجية” للتعامل مع الوضع الجديد ووضعت هياكل تنظيمية جديدة، إلا أن الالتزام بتحميل عبء المديونية، وتوريث الكادر الوظيفي للبلديات الجديدة، وغياب برنامج زمني للعمل، أضعف الجانب العملي والتطبيقي لهذه الاستراتيجية التي تبدو شبه متكاملة من الناحية النظرية.
وعلى الصعيد المالي والإداري، ظهر بعض التحسن في أداء البلديات من حيث نسب الجباية والقدرات المؤسسية والتخطيط المالي. إلا أن العلاقة التي كانت سائدة من قبل بين المركز والأطراف بقيت على حاله، إذ ما زال المركز يتحكم بتفاصيل عمل البلديات دون تفويض حقيقي للصلاحيات، بحيث تصبح الأطراف مسؤولة عن القرارات التي تتخذها، وهذا من شأنه إدامة أنماط العلاقات السابقة.
أما على الصعيد السياسي، فقد شهدت نسبة الإقبال على المشاركة في الانتخابات المحلية بعد الدمج والتعيين تراجعا ملحوظ، ما يتعارض مع التوجه الوطني القاضي بتعزيز المشاركة السياسية، إذ تشير البيانات التي أوردها التقرير إلى أن نسبة التسجيل والاقتراع في الانتخابات الأخيرة كانت أقل بكثير مما كانت عليه في الانتخابات السابقة. وقد يعود السبب إلى أن الدمج، في بعض جوانبه، لم يراع مسألة التمثيل الواقعي للسكان، كذلك لعل بالإمكان القول إن تعيين رئيس البلدية وعدد من أعضاء مجلسها، وفقا للقانون الجديد، قد أفضى إلى فتور الحماس لدى المواطنين للاهتمام بشؤون العمل البلدي، بوجه عام. وربما يعزى ذلك إلى اختلال التوازنات المحلية التي كانت تحظى باهتمام المواطنين، وتنامي شعورهم بعدم جدوى بذل الجهود للتأثير في واقع البلديات، في ظل الوعي بقدرة المركز على التدخل المستمر، وفرض قراراته وتوجهاته.
وخلص التقرير في جزئه الأخير إلى مجموعة من التوصيات التي شددت على ضرورة أن تكون المرحلة الحالية من عمل البلديات جزءا من استراتيجية طويلة الأمد تأخذ بالاعتبار عناصر الحكم المحلي بكل أبعادها السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وحل مشكلة الازدواجية، بين المحافظ المعين من قبل وزارة الداخلية ورئيس البلدية “المنتخب” ووزارة الشؤون البلدية، في الصلاحيات التي تحكم آليات الحكم المحلي. مع التأكيد أن عملية إعادة الهيكلة لن تكتمل دون العودة إلى الانتخابات، وإيجاد الضوابط والمعايير لضمان الرقابة على البلديات، وتحميلها مسؤولية القرارات التي تتخذها