يعدّ دستور “ 2011 ” بمثابة الدستور الثالث في تاريخ المملكة الأردنية، ففي العام 1928 عمل النظام السياسي
لإمارة شرق الأردن، تحت مظلة القانون الأساسي الذي صدر في العام 1928 ، ثم جاء أول دستور للمملكة الأردنية
الهاشمية مع مرحلة الاستقلال في العام 1946 ، يليه الدستور الثاني في العام 1952 ، الذي مثّل خطوة
نوعية ومتقدمة في تعريف السلطات الأساسية ووضع أسس التوازن فيما بينها، والاقتراب أكثر من الصيغة
الديمقراطية للنظام النيابي الملكي الوراثي.
بعد العام 1952 أجريت تعديلات متعددة على مواد الدستور الأردني على مدى فترات زمنية، التي نظر لها
الخبراء والسياسيون بوصفها تراجعاً عن الروح الديمقراطية التي صبغت ذلك الدستور، وتحجيماً لسلطة مجلس
النواب، الذي يمثّل البند الرئيس -في الدستور- للتمثيل الشعبي المباشر. وبالرغم من أنّ هذه النظرة قد تكون
صحيحة من زاوية النتائج والمخرجات )أي تحديد سلطة النواب( إلاّ أنّها تعكس – من زاوية أخرى- التطورات
التاريخية والسياسية التي مرّت بها البلاد بعد ذلك، وكان عنوانها بصورة مستمرة عدم الاستقرار والأزمات
الإقليمية والداخلية والتحديات الوجودية التي وجدت طريقها الطبيعية إلى التشريعات الرئيسة في البلاد،
على صعيد الدستور أو القوانين وحتى الأنظمة المختلفة، كما هو الحال في الأنظمة السياسية التي مرّت
بظروف متشابهة.
تمثّل التعديلات الدستورية، إذاً، في كثير من الأوقات، استجابة موضوعية لطبيعة اللحظة التاريخية وتطوراتها
والتدافعات السياسية التي تخلق ضرورات وحاجات تشريعية جديدة، فالدستور لا يولد من فراغ أو خارج السياق
السياسي والتاريخي والمجتمعي والثقافي. من هنا يمكن النظر، مثلاً، إلى الدساتير السابقة، وتحديداً دستور
1952 ، الذي جاء بعد وحدة الضفتين ونتيجةً لشعور الدولة والقوى السياسية المختلفة بضرورة تطوير المعادلة
السياسية الداخلية لتكون قادرة على احتواء التطورات السياسية والمجتمعية والتطلعات الشعبية الضاغطة
لنظام أقرب للطابع الديمقراطي والنيابي.
مثل هذا المتغير المهم، أيّ اللحظة التاريخية والتطورات السياسية والمجتمعية الداخلية والإقليمية، أحاط
بولادة الدستور الجديد للمملكة، الذي لا تتوقف قيمته على مستوى مضمون التعديلات التي أجريت على مواد
الدستور نفسه، بل أيضاً في أنّه يعكس اللحظة التاريخية سياسياً، ويمثّل نموذجاً تشخيصياً لتعامل الدولة
الأردنية مع أحداث “الربيع العربي” والاحتجاجات الداخلية والمطالبات السياسية من قبل المعارضة بإجراء
إصلاحات سياسية جوهرية في البلاد.
وربما يكشف هذا الجانب الرئيس في قراءة دستور 2011 ، في أنّه يمثّل المرّة الأولى بعد العام 1952 التي يتمّ
فيها فتح الدستور كاملاً أمام القراءة والمراجعة المستفيضة لبنوده وإجراء التعديلات اللازمة عليه التي طالت
أكثر من 40 مادة، في ظل نقاش وتفاعل من قبل القوى السياسية والشعبية المختلفة داخل مجلس النواب
وخارجه. وإذا ما عدنا لقبل ذلك، فإن مجرّد المطالبة بتعديل الدستور كان يعتبر في عُرف تيار سياسي مع في
البلاد بمثابة تجاوز للخطوط الحمراء لا يجوز الاقتراب منها!
ثمّة ظرف تاريخي، إذاً، هو الذي خلق المناخ السياسي المواتي لمراجعة الدستور أو بعبارةٍ أدقّ إعادة كتابته مرّة
أخرى، وهذا الظرف هو حقبة “الربيع العربي” التي أدّت في بدايات العام 2011 إلى إطاحة رئيسَيْ دولتين
)مصر وتونس(، ثم في موجاتها التالية إلى مواجهات داخلية مسلّحة أدت إلى إطاحة رئيَسي آخرين )ليبيا
واليمن(، ودخلت، إلى حدّ ما، العديد من الدول العربية في طور جديد كان ينطوي في حدّه الأدنى على الخلافات
والتجاذبات الداخلية الكبيرة وفي حدّه الأقصى على حروب داخلية وأهلية مُدمره، وبينهما درجات لا تقّل خطورة
عمّا سبق من شيوع حالة الفوضى والانفلات والأزمات السياسية الطاحنة والانتكاسة الأمنية والسياسية،
داخلياً وخارجياً.