كشف رئيس الديوان الملكي والوزير الأسبق عدنان أبو عودة عن نهج جلالة المغفور له الملك الحسين في إدارة الأزمات التي عايشتها، خلال محاضرة نظمها أمس مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية بالتعاون مع اللجنة الثقافية بالنادي الأرثوذكسي، اختار منها سبعة أزمات عايشها ليتحدث عنها، منها ستاً بحكم عمله وتابع السابعة من الخارج، هي: مواجهة أيلول العسكرية بين الدولة والمنظمات الفدائية 1970، وحرب رمضان أو أكتوبر 1973، وزيارة السادات للقدس والصلح المصري المنفرد 1977-1978، وأزمة منظمة التحرير والممثل الشرعي الوحيد 1974-1986، الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية المعروفة بـ ” هبّة معان” 1989، واحتلال الجيش العراقي لدولة الكويت في 1990/8/2، والاحتكاك الأمني المبكر مع إسرائيل بعد معاهدة السلام ومشكلة (الدقامسة وخالد مشعل).
وقال أبو عودة :” إنه قبل أن أتناول هذه الأزمات واحدة واحدة، أرى من الضروري الإشارة الى شخصية المغفور له جلالة الملك الحسين القيادية ومكنوناتها الفكرية والسيكولوجية وضميره الإنساني، كشفت للمقربين منه من أصدقاء ومسؤولين وموظفين، والذي كان يقف وراء سلوكه ومقارباته المتميزة بالرحمة والتعاطف والتفهم والصبر وحُسن الاستماع واحترام الآخر والتسامح”.
وأضاف: “في يقيني أن هذه السجايا الإنسانية لجلالة المغفور له الحسين معروفة لديكم لكنني سأختار خاصية واحدة اكتشفتها حينما كنت أحظى بصحبته مع عدد من المسؤولين المرافقين له في ليالي القدر، التي كان يختارها كل عام لأداء مناسك العمرة في مكة المكرمة التي كنا بعد الانتهاء منها نغادر بصحبته الى المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول الأعظم، وهناك كان يُفتح لجلالته باب الضريح، فتراه يتعجل الخطى نحوه ملقياً ذراعيه عليه كما لو كان يعانقه بعد غياب، ساعياً لبلوغ أقصى أشواقه النورانية لجده المصطفى صلى الله عليه وسلم”.
أزمة أيلول 1970
عن أزمة أيلول 1970 قال أبو عودة إن أسباب الصدام كانت متوفرة، وجلالة المغفور له الملك الحسين لخّص تطور الصراع بين شرعية الدولة ومنظمات مسلحة غيّرت توجهها من التحرير إلى تغيير النظام، وجوهرها قوله ” لقد تحوّل العمل الفدائي إلى عمل حزبي”.
وتابع أبو عودة قائلا “أنا فقدت السيطرة على عمان ولم تكن لي سلطة في الحكم، كان هناك حوالي 60 ألفاً من أعضاء المنظمات يحملون السلاح والذخيرة والعقائد السياسية المختلفة، ولا تحكمهم قاعدة معينة، منزلي كان محاطاً بقواعد الفدائيين، والبنادق موجهة إلي، لقد تحوّل العمل الفدائي إلى عمل حزبي.
وزاد: في البداية كنا مع العمل الفدائي المتوجه للعمل داخل الأراضي المحتلة. أما أن ينشغل العمل الفدائي ببعضه البعض ونصبح الضحية بينما إسرائيل تتفرج فقد كان من الصعب الصبر”.
ذكر جلالته ذلك في مقابلة صحفية مع الأستاذ أحمد الجار الله رئيس تحرير جريدة السياسة الكويتية في شباط /فبراير 1972، وأزمة الغزو انتهت لكن أزمة الفدائيين استمرت، وبعبارة أخرى؛ بدأت الأزمة محلية ثم تحوّلت إلى إقليمية وبعدها إلى دولية، وبانسحاب القوات السورية انتهت الأزمة ببعدها الدولي، واستمرت ببعدها الإقليمي الذي أخذ شكل الإعلام المعادي وبُعدها المحلي.
حرب أكتوبر 1973
وحول الأزمة الثانية حرب أكتوبر 1973 قال أبو عودة كانت حرب رمضان في تشرين الأول أو حرب أكتوبر كما هي معروفة مصرياً، لماذا شكّلت هذه الحرب التي شنتها مصر وسورية بشكل مفاجئ في أكتوبر 1973 وهلّل لها العرب في بدايتها، أزمة للأردن؟ وكيف عالج المرحوم الحسين هذه الأزمة؟.
وبين أبو عودة أن جلالة المغفور له جلالة الملك الحسين استاء من المفارقات الواضحة، فبينما ينصح السادات بعدم دخول المعركة، سورية تطلب منا دخولها، بالإضافة إلى أن القوات السورية تبلغ ثلاثة أضعاف القوات الأردنية، وجبهتها تبلغ 81 كم، مقابل 450 كيلومترا من الجبهة الأردنية، وبعد 48 ساعة من هجومها لم تتقدم أبعد من الذي تقدمته في اندفاعتها الأولى.
وزاد: في ضوء ذلك، أعدّ سيدنا رسالة لإرسالها للرئيس الأسد. وأمر سيدنا بإرسال وفد عسكري للاتصال بنظرائهم في سورية للإطلاع على الوضع عن كثب. كان رأي الرئيس زيد الرفاعي ألا ترسل الرسالة مكتوبة ويحمل مضمونها لسورية الوفد العسكري، وهو يشرح وجهة نظرنا، وافق الرئيس كما وافق عبدالمنعم على ذلك، واقترحت أن ينقل مضمونها اللواء عامر خماش، فوافق سيدنا على الاقتراح.
وأوضح أنه في مساء 12/10/71 اتخذ الملك قراره بإيفاد لواء مدرع أردني بقيادة الزعيم خالد هجهوج لصد الهجوم المعاكس الإسرائيلي الذي بدأ في إعادة القوات الإسرائيلية للأراضي السورية التي فقدتها لدى الاندفاع الأولي للجيش السوري، ثم انضمت القوات الأردنية المدرعة إلى جانب القوات السورية في جبهة الجولان، والتحقت بهذه القوات فيما بعد قوة عراقية مسلحة وأخرى سعودية جاءت جميعها للدفاع عن سورية.
وأشار أبو عودة إلى أن هذه الخطوة كانت عنواناً بالغاً لحكمة سيدنا القيادية، إذ بالمشاركة العسكرية على الجبهة السورية حُلّت الأزمة. وأكثر من ذلك لا يستطيع أحد أن يدّعي أن الأردن تخاذل في معركة المصير كما سميت، كما نكون قد جنبنا الأردن أن يكون هدفاً مباشراً لإسرائيل. الأردن دولة محاربة في هذه الحرب، وأصبح ينطبق عليها في حالة وقف إطلاق النار ما ينطبق على مصر وسورية في أي اتفاقية سلام ستعقد. وتابع: (مع الأسف رفضت إسرائيل قبول هذه الحجة عام 1974 حينما بدأت بواسطة هنري كيسنجر تنفيذ اتفاقيات فك الاشتباك مع مصر وسورية)، كان عذرها في ذلك، كما نقله كيسنجر لرئيس الوزراء زيد الرفاعي، بأنه صحيح أن الأردن كان إحدى الدول المتحاربة، لكنه لم يفتح جبهة من أراضيه.
زيارة السادات للقدس
وعن الأزمة الثالثة زيارة السادات للقدس والصلح المنفرد قال أبو عودة: في 9/11/1977 أعلن المرحوم السادات في خطاب أمام مجلس الشعب المصري عن استعداده لمواجهة زعماء إسرائيل ومناقشتهم في الكنيست، استجابت إسرائيل لعرضه، ووجهت له دعوة للقيام بزيارة رسمية لها، وفي 20/11 وكانت عشية عيد الأضحى، لبّى الرئيس السادات الدعوة وذهب للقدس، دُهش العرب جميعاً وأولهم جلالة المرحوم من هذه الخطوة، طرح الرئيس السادات في خطابه في الكنيست، وفي لقاءاته مع مختلف القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية رغبة مصر والعرب في السلام، وأنه يدعو إسرائيل للتجاوب مع هذه الدعوة، لم يكن رد الفعل العربي الرسمي واحداً بينما استنكرته معظم الدول، أيدته دول أخرى.
وأشار أبو عودة إلى أن الأزمة التي تبعت زيارة السادات: بالنسبة لنا في الأردن وجلالة المرحوم الذي كان متيقّناً أن الأردن جزء من المشروع الإسرائيلي التوسعي، فقد كنا نخشى أن الدولة العربية الكبرى، أي مصر الساعية لإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل ربما في سبيل تحقيق هدفها خلال الانفراد أن تتفق مع إسرائيل على حلول تكون على حساب المصلحة الوطنية الأردنية.
وتابع: ومن جهة أخرى فإن حضور الأردن بدون سورية ومنظمة التحرير سيخلق لها مشكلات عدة تشمل أعمالاً تخريبية وحرباً نفسية بإعلام عربي اعتاد على شيطنة الأردن إعلامياً منذ أيلول 1970، ولذلك اختار الأردن منذ البدء أن يتبنى موقف التوازن الذي عبّر عنه المرحوم بوضوح في خطابه في 28/11/1977 حينما قال إن مبادرة الرئيس السادات الانفرادية لا يجوز أن تتحول إلى سبب في إضعاف القضية، وأن من الجدير عربياً ألا ننسى دور مصر في نهضة العرب ووقوفها طوال 30 عاماً في مواجهة عدوان إسرائيل، كما لا يجوز تبادل نعوت الخيانة.
وزاد: أما نتيجة المباحثات المصرية الإسرائيلية؛ فكانت كاشفة للسياسة الإسرائيلية التوسعية وبخاصة في الضفة الغربية، قد عرض بيغن على السادات رفضه لفكرة إنشاء كيان فلسطيني، لأنه يعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين أراضي إسرائيلية، ولذلك فإنه يقترح أن يمنح المواطنون فيهما حُكماً ذاتياً تحت إدارة مدنية بدل الإدارة العسكرية الحالية، رفض السادات الخطة لكنه قرر مع بيغن مواصلة المباحثات من خلال لجنة مشتركة.
ولفت إلى أنه في 17/1/1978 صرّح بيغن رئيس وزراء إسرائيل الليكودي”أنه لا سلام إذا عادت إسرائيل إلى حدود 5 حزيران 1967 أو أعيدت تجزئة القدس، ووصف طلب مصر بانسحاب إسرائيل من القدس بأنه يتّسم بالوقاحة”، وفي ضوء هذا التصريح سحب الرئيس السادات الوفد المصري المفاوض من القدس.
وأكد أبو عودة أن أزمة الانفراد المصري تطورت إلى أزمة أردنية جديدة مع الولايات المتحدة. ففي 20-21 أيلول زار وزير الخارجية الأمريكي سايروس فانس عمان، وقابل جلالة المرحوم بوجود المرحوم عبدالحميد شرف رئيس الديوان الملكي، وسلمه الوثيقتين وحثّه على اللحاق بالركب.
وتابع: بعد سفر فانس، ترأس جلالة المرحوم اجتماعاً حضره رئيس الوزراء مضر بدران؛ والمرحوم عبدالحميد شرف رئيس الديوان؛ وأنا، وطرح جلالته خلاصة مقابلتة مع فانس، وبدأنا نناقش ما ورد في الوثيقة الأولى التي تهمنا لنقرّر، أسفر النقاش عن رفضنا الذهاب إلى السلام وفق ما جاء في تلك الوثيقة وجلالته الذي يرى الأمور بمنظار آخر يتعلق بمخالفة طلب الرئيس الأمريكي طرح الموضوع من زاوية ما هو العقاب المحتمل، وهل نقدر عليه وكيف نواجهه، هكذا كانت الأزمة الجديدة، وبعد تبادل الأفكار اتفقنا أن نتريث في الرد، وفي الوقت نفسه يستطلع جلالته موقف الدول النفطية الشقيقة التي تساعدنا مالياً فيما إذا حجبت الولايات المتحدة معونتها المالية عن الأردن، هل ستعوضنا؟.
وقال أبو عودة: أما مسألة شراء الوقت، فاتفقنا أن يوجه سيدنا رسالة للرئيس كارتر يقول فيها إن ما جاء في الوثيقة مهم ويستحق الدراسة، وحينما درسناه تبيّن لنا أن هناك نقاط غامضة تحتاج إلى توضيح. وذكرنا في الرسالة تلك النقاط الغامضة وعددها ثلاث عشرة، وأرسلت الرسالة الى واشنطن، توقعنا أن يكون الوقت الذي ستأخذه واشنطن للرد على رسالة سيدنا كافيا لقيام سيدنا باستطلاع موقف الدول النفطية الشقيقة. وبين أنه جاءت أجوبة الملوك والأمراء الخليجيين إيجابية، الأمر الذي طمأننا، وبعد ذلك بأسبوع عاد وزير الخارجية سايروس فانس بالأجوبة عن الأسئلة الثلاث عشرة، واختار جلالته أن يجعل اللقاء بين فانس وفريقه من الخارجية المعنيين بالشرق الأوسط مع الحكومة، وعقد اجتماع في رئاسة الوزراء بحضور رئيس الوزراء مضر بدران، والمرحوم الشريف عبدالحميد شرف، والمرحوم وزير الدولة للشؤون الخارجية حسن ابراهيم، اطّلع المسؤولون الأردنيون الثلاثة على الردود، وباعتبار أن موقفنا كان قد اُتخذ سلفاً، فدار الحوار بين الوفد الأمريكي والمسؤولين الأردنيين حول عدم قناعة الأردنيين بأن هذه الوثيقة والرد الأمريكي على ما أسميناه غموضاً ستصنع سلاماً حقيقياً وهكذا انتهينا من الأزمة دون خوف من النتائج.
منظمة التحرير والممثل الشرعي الوحيد
وعن الأزمة الرابعة محاولة إبطال مفعول مقصد هنري كسنجر من “المنظمة وهي الممثل الشرعي الوحيد” قال أبو عودة أن ما يشغل جلالته ثلاث قضايا قومية: الأولى: مصالحة الرئيسين البعثيين المرحومين صدام حسين وحافظ الأسد. والثانية: إعادة مصر مبارك للحظيرة العربية والثالثة: النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية.
وزاد: ما يهمني في هذا الأمر هو قلق سيدنا المتزايد من تسارع الاستيطان، وبخاصة عند مجيء بيغن رئيساً لوزراء إسرائيل، الذي نقل تركيز الاستيطان الى محافظة نابلس مخالفاً بذلك مشروع إيجئال آلون وزير حكومة حزب العمل السابقة التي ركزت على محافظة الخليل وضواحي القدس.
وتابع: جلالة المرحوم الذي كان واعياً تماماً على المشروع الصهيوني الذي يجعل من الأردن مشروع التوسع، رأى في توسّع حزب الليكود بالاستيطان لسائر الضفة الغربية تهديداً للدولة الاردنية اذا استمر الحال على ما هو عليه؛ أي ” حالة اللاحرب واللاسلم” وهو المصطلح اذي أطلقه سيدنا على واقع الحال.
بدأ هذا الخوف يتشكل في ذهنه بشكل جاد حينما رفضت إسرائيل وكسينجر إدراج الأردن مع مصر وسورية عام 1974 بنهج فك الاشتباك؛ بحجة أن الأردن الذي حارب في 1973 في الجبهة السورية لا يمكن اعتباره دولة محاربة لأنه لم يفتح جبهة من أراضيه.
ولفت أبو عودة إلى أنه حينما اتخذ العرب ” قرار اعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد ” في قمة الرباط 26-29 أكتوبر 1974، قرأناه في الأردن قراءة سليمة واعتبرناه مكيدة دبلوماسية هدفها شراء الوقت لإسرائيل لمواصلة استيطان الضفة الغربية، وذلك بتحويل الضفة الغربية كما هي موصوفة في قرار 242 من أرض محتلة الى أرض متنازع عليها بين الأردن ومنظمة التحرير.
وزاد: في ضوء ذلك، قرّر جلالته وضع خطة لإبطال مقصد كيسنجر صاحب فكرة ” الممثل الشرعي الوحيد ” بالاتفاق مع المنظمة على مستقبل الضفة الغربية دون التراجع عن موافقة الأردن عن الاعتراف بالمنظمة الممثل الشرعي الوحيد، وشرعنا في تطبيق الخطة على الشكل التالي؛ أولاً: استضاف الأردن المؤتمر الوطني الفلسطيني في عمان في 22/11/1984، وفي كلمته الافتتاحية للمؤتمر اقترح جلالته بأن يتقدم الجانبان الأردني والفلسطيني بمبادرة أردنية-فلسطينية على أساس المبادئ التالية: التمسك بقرار مجلس الأمن (242 ) وذلك للتأكيد على أن الضفة الغربية المحتلة أرض محتلة وليست أرضاً متنازعاً عليها، والأرض مقابل السلام، وإجراء المفاوضات من خلال مؤتمر دولي تحضره المنظمة على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى.
ثانياً: قرّر جلالته أن نمضي قُدماً أولاً بالحصول على مباركة الدول العربية، وثانيا أن نثبت ذلك عملياً للعالم بإرسال وفد مشترك أردني – فلسطيني لعدد من الدول منها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وفي أيار/ مايو 1985 قام المرحوم بزيارة رسمية لواشنطن، حيث عقد محادثات مع الرئيس ريغان أكد له خلالها أن الأردن والمنظمة عازمان على التفاوض مع إسرائيل للوصول إلى سلام عادل ودائم على أساس قرارات مجلس الأمن 242 و338. وبعد الزيارة طلب سيدنا من عرفات تزويده بأسماء الفلسطينيين الذين سيشاركون في الوفد الأردني الفلسطيني المشترك، شريطة ألا يكونوا ممن عُرفوا بالقيام بأعمال عسكرية ضد إسرائيل. وبين أنه أرسلت أسماء سبعة أشخاص لواشنطن. ولكن اللوبي الصهيوني احتجّ على مشاركة فلسطين من أعضاء المنظمة، فتراجعت الإدارة الأمريكية عن موقفها الذي عبّرت عنه في زيارة سيدنا في أيام. وفي آب/ أغسطس من العام نفسه، استأنفت الحكومة الأردنية المفاوضات مع عرفات، وأكّد عرفات استعداد المنظمة لقبول قراري 242 و 338. وأبلغنا الإدارة الأمريكية بذلك، وجاء الرد مخيباً للآمال بأنه ليس من الممكن عقد اللقاء مع الوفد المشترك.
وأوضح أبو عودة أنه نتج عن هذا التحوّل وغيرها في توجه الانتفاضة بأن تضع الأردن على الصعيد نفسه مع إسرائيل إلى قرار فك العلاقة القانونية والإدارية مع الضفة الغربية، وذلك في 1988/7/28 وبعد أقل من أربعة شهور على هذا القرار أعلن المرحوم أبو عمار في المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر المنعقد في الجزائر قيام دولة فلسطين وجاء في خطابه أن الدول تؤمن بتسوية المكشلات الدولية وفقاً لميثاق الام المتحدة وقراراتها وانها ترفض التهديد بالقوة أو العنف أو الارهاب، أي ان المرحوم عرفات وافق على الشرطين الأميركيين الذين رفضهما أثناء شراكته مع الأردن واعترف بهما بعد قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية لأن المنافس خرج من اللعبة.
الأزمة الاقتصادية الاجتماعية أو هبّة معان 1989
أما عن الأزمة الخامسة (الأزمة الاقتصادية الاجتماعية أو هبّة معان 1989 ) قال أبو عودة :” في مؤتمر القمة العربي التاسع الذي عقد في بغداد في أوائل تشرين الثاني 1978 بعد توقيع مصر لاتفاقيتي كامب ديفيد لبحث نتائج ذلك التحوّل الخطر في الموقف العربي من إسرائيل، تقرر إنشاء صندوق دعم عربي لدول المواجهة ومنظمة التحرير كانت حصة الأردن منه 1250 مليون دولار سنوياً ولمدة عشر سنوات”.
وأضاف :” كانت الدول المتعهدة بالدفع: السعودية، الكويت، الإمارات العربية المتحدة، قطر، العراق، ليبيا والجزائر، وتلقى الأردن في السنة الأولى 1979 من المساهمين من الدول العربية النفطية والخليجية والعراق كامل التزاماتهم، ومن الجزائر ثلث التزاماتها للسنة الأولى؛ لأنها قالت إنها لا تستطيع أن تدفع التزامها بالكامل مرة واحدة، وستدفعه على ثلاثة أقساط ودفعت القسط الأول، أما ليبيا فلم تدفع فلساً واحد”.
وتابع أبو عودة:” وفي عام 1980 اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، وبسبب الحرب توقفت الدول الخليجية، ما عدا المملكة العربية السعودية، بعد عام أو عامين عن الدفع بما في ذلك العراق. لكن الأردن منذ السنة الأولى بعد قمة بغداد معتمداً على التزامات الدول العربية المانحة أخذ يضع مبلغ الـ 1250 مليون دولار في الموازنة باعتبارها مبلغاً مضموناً وفي ضوئه يصوغ الميزانية السنوية، وبخاصة في ما يتعلق بشراء الأسلحة قناعة منه أن الدولة التي لم تدفع السنة ستدفع السنة المقبلة، لكن ذلك لم يحدث. وهكذا بدأت الديون تتراكم؛ لأنه كان على الحكومة أن تسدّد أثمان مشترياتها، فلجأت إلى الاقتراض الخارجي، وكادت تستنزف احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية، وبعد منتصف الثمانينات حوّل البنك المركزي سياسته من ثبات سعر الصرف مقابل حقوق السحب الخاصة وتجاوزها إلى إدارة سلسلة من العملات تعكس نمط التجارة الخارجية للأردن، تلا ذلك تعويم لسعر صرف الدينار عام 1988، ما أدّى إلى انخفاض سعر صرف الدينار مقابل الدولار الأمريكي حتى وصل 910 فلسات”.
وزاد:” تتالت الضغوطات على الاقتصاد الأردني مع نهاية عقد الثمانينات، حيث فاقت نسبة الدين الخارجي (الـ 200% من الناتج المحلي الإجمالي) وعجز الحساب الجاري إلى (14% من الناتج) وعجز الموازنة العامة إلى (23% من الناتج) بالإضافة إلى أزمة بنك البتراء.
وفي شباط/ فبراير 1989 وقّع الأردن في بغداد على ميثاق (مجلس الاتحاد العربي) الذي ضم الأردن والعراق واليمن ومصر، كان ذلك في فترة الهدوء التي أعقبت نهاية الحرب العراقية الإيرانية وحينما كانت الدول الأربع تواجه صعوبات اقتصادية لذلك، كان الاقتصاد من أهم التحديات التي يواجهها الاتحاد، ولذلك نصّت الاتفاقية أن هدف المجلس تحقيق التنسيق والتعاون والتكامل والتضامن بين الدول الأعضاء، وتحقيق التكامل الاقتصادي تدريجياً بينها”.
“وفي 16 نيسان/ أبريل 1989 أعلنت الحكومة زيادة في أسعار الوقود و بعض المواد الأخرى. وحدث أن جلالة المرحوم بعد يوم من هذا القرار بدأ بزيارة رسمية للولايات المتحدة كانت مقررة سابقاً. وفي 18 نيسان؛ أي بعد يومين من مغادرة المرحوم عمان، انطلقت مظاهرات احتجاجية على هذا القرار في مدينة معان التي سُميّت في المصطلح السياسي الأردني (هبّة معان) وأخذت الاحتجاجات تتطور باعتداء المحتجين على المرافق العامة وتنتشر في المدن الأخرى في الجنوب ثم في الوسط. وكانت البرقيات تصل باستمرار لجلالة الملك فتنبئه على تطورات الاحتجاجات وما رافقها من حوادث. وبانتشارها وتطورات التعبير عنها بأعمال التخريب، بدأ القلق يدبّ في نفس جلالته، وتخيّلت وكنت أحد أعضاء الوفد المرافق أن جلالته يمزقه من الداخل خياران متناقضان: هل يقطع الزيارة ويعود لإنقاذ الوضع قبل تفاقمه؟ أو يواصل برنامج الزيارة؟ لكنه اختار الاستمرار في الزيارة. ومن معرفتي بشخص جلالته كنت متأكداً أن جلالته كان مطمئنا على الأردن والنظام ولكنه خشي أنه لو قطع الزيارة فإنه سيعطي الحليف الأمريكي صورة خاطئة عن النظام بأنه ضعيف، وهي صورة من شأنها أن تفسد نظرة الحليف للأردن، وربما تؤثر سلباً في سياسته نحوه مستقبلاً . كان آخر عمل في برنامج زيارته الذهاب إلى بوسطن ليتسلم جلالته شهادة دكتوراه فخرية من الجامعة، وذلك يوم24/4/1989”.
أكمل أبو عودة الحديث قائلا :”بعد تسلّمه شهادة الدكتوراه الفخرية، اتجهت الطائرة الملكية مساء إلى عمان. وعلى متن الطائرة وبعد تناول وجبة العشاء، طلب مني جلالة المرحوم أن أعدّ له خطاباً عن الوضع في الأردن. أعددت خلال الرحلة له خطاباً مناسباً ألقاه في 26/4 بعد وصولنا بيوم واحد. حينما وصلنا يوم 25 حضر من بغداد المرحوم صدام حسين تعبيراً عن تضامنه مع جلالته والأردن، وبمجرد وصول جلالته عمان، اتجه الوضع للهدوء، وفي اليوم التالي استمع جلالته بحضوري لإيجاز مفصل من سمو الأمير الحسن عن الأحداث. وبعد الإيجاز قرر جلالته تغيير الحكومة وتكليف المرحوم الشريف زيد بن شاكر رئيس الديوان بتشكيل الحكومة. وكانت هذه الخطوة هي الأولى في سيرورة إصلاح سياسي سأعود إليه بعد استكمال معالجة المشكلة الاقتصادية بتوجيه من جلالته، وفي ظل رئيس الحكومة المرحوم الشريف زيد بن شاكر عمل فريق الإصلاح المالي المشكّل من السيد باسل جردانة وزير المالية، والدكتور زياد فريز وزير التخطيط، والمرحوم الدكتور سعيد النابلسي محافظ البنك المركزي لإنقاذ الدولة مما عبّرت عنه هبّة معان وذلك باتخاذ إجراءات تصحيحية حازمة لتغيير مسار الاقتصاد الوطني، حيث تم العمل على وضع العديد من البرامج الوطنية متوسطة الأجل خلال الفترة من (1989-1991) وتوجه آخر بعده (1992 – 1994) بالمشاركة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ما أعاد هيكلة الاقتصاد وحقق مزيداً من الاعتماد على الذات، وتنشيط دور القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني. وشرع الأردن عام 1994 بتكثيف جهود الإصلاح الاقتصادي من خلال برنامج تسهيل ممتدّ خلال فترتين الأولى (1994 – 1996) والثانية (1996 – 1998) مع الصندوق للحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي بنسبة أعلى من 6% والحفاظ على مستويات مقبولة من التضخم وتحسين القطاع الخارجي”.
“وفي عام1995 تبنى البنك المركزي سياسة ربط سعر الصرف للدينار الأردني بالدولار الأمريكي محققاً بذلك هدف البنك الرئيس المتمثل بالحفاظ على الاستقرار النقدي واستقرار المستوى العام للأسعار، والمحافظة على جاذبية الدينار الأردني، وتوفير بيئة استثمارية جاذبة.
وقال أبو عودة:” لعل أحد المؤشرات على نجاح هذه السياسة هبوط نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي من عام1989- عام 1990 أي خلال عشر سنوات من بدء سياسة الإصلاح والتصحيح هبوطها من أعلى من 200%، عام 1989 إلى 115% عام 1999.”
وأضاف :” أعود الى النتيجة الثانية لهبّة معان، وهي العمل على الإصلاح السياسي من منطلق أن مجلس النواب ما عاد تمثيلياً؛ لأنه انتُخب في نيسان/ أبريل 1967 وأن من الضروري إشراك جيل جديد في العمل السياسي ، قرر جلالة المغفور له إجراء انتخابات نيابية. كلّف المرحوم زيد بن شاكر رئيس الديوان الملكي آنذاك بتشكيل حكومة جديدة وأمره بإجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة، أُعلنت نتائج الانتخابات في 10/11/1989 وكان الناجحون يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الأردني ، كان منهم حزبيون لم يشاركوا في العمل السياسي منذ أربعة عقود، ومنهم مستقلون ومخضرمون وآخرون محدثون. وما زالت تلك الانتخابات محطة مشرقة في تاريخ الأردن السياسي يستحضرها الناس بنوع من الحنين.
وزاد:” وفي حكومة مُضر بدران المعدّلة التي خلفت حكومة زيد بن شاكر 1986 والتي ضمت عدداً من الإخوان المسلمين والنواب وبدافع من قوة الاستمرار، بدأ سيدنا يفكر بالمضي للأمام نحو الديمقراطية وبدأ يفكر جدياً باستئناف التعددية السياسية المتعطلة منذ 1957. كلفني بالاتصال بزعماء الأحزاب القومية واليسارية للتأكد من استعدادهم لاستئناف العمل الحزبي في ظل النظام الملكي الهاشمي . قمت بالمهمة وسُرّ من موافقتهم بعد أن اطلعته على نتيجة استطلاعي، فأمر بوضع ميثاق وطني يلتزم به الجميع وشكلت لجنة وطنية برئاسة دولة أحمد عبيدات من ستين عضواً وفي 9/4/1990 ، صدرت الإرادة الملكية لصياغة الميثاق الوطني، وضمت زعماء أحزاب يسارية وقومية وأعضاء من الإخوان المسلمين ومثقفين وصحفيين ومفكرين مستقلين، وعملت اللجنة على مدى تسعة شهور مُنهية صياغة الوثيقة التي فتحت الباب أمام العمل الحزبي الوطني الذي يشترط نشوء أحزاب برامجية، وفي 9/1/1990 عُقد مؤتمرٌ وطني مثّل كل قطاعات الشعب حضره ما يزيد على 2000 رجل وامرأة ممثلين عن الأحزاب والنقابات والبلديات والجمعيات ورجال الفكر والصحافة وشيوخ ووجهاء المجتمعات المحلية ورجال الدين والجمعيات النسائية الخيرية. ألقى الملك كلمته مهنئاً شعبه بالميثاق الوطني، وصفّق الحضور بحماسة مانحين الميثاق شرعية الإجماع الوطني. وهكذا تحولت هبة معان من أزمة سياسية اقتصادية إلى منطلق إصلاح اقتصادي وسياسي بقيادة المرحوم الحسين”.
احتلال الجيش العراقي للكويت في 2/8/1990
قال أبو عودة :” احتلال الجيش العراقي للكويت هي الأزمة السادسة، فبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في آب/ أغسطس 1988 بنحو ستة أشهر ساد فيها الهدوء والأمل بحقبة قادمة تتميز بالتنمية الاقتصادية والتعاون العربي، وقّع في بغداد اتفاقية التأسيس لمجلس التعاون العربي كل من: جلالة المرحوم الحسين؛ والمرحوم صدام حسين؛ والمرحوم علي عبدالله صالح؛ والرئيس حسني مبارك رؤساء الدول العربية الأربع: الأردن، والعراق، ومصر، واليمن. وكان الاقتصاد هو الركيزة لمجلس التعاون والعمل على تحقيق التكامل الاقتصادي تدريجياً. واختيرت عمان مقرّا لأمانة المجلس، أما رئاسته فكانت دورية بين الزعماء الأربعة”.
وأضاف أبو عودة :” وفي أوائل 1990 ظهرت على السطح مشكلة بين العراق والكويت حول حقل الرميلة النفطي على حدود البلدين حينما شكا العراق من أن الكويت تستخدم تكنولوجيا حديثة تمكنها من الحفر بشكل مائل تحت الأرض وتصل بواسطتها إلى النفط العراقي في حقل الرميلة. وتحوّلت المشكلة إلى نزاع غذاه واقع الوضع المالي للعراق الخارج من الحرب، وفي الاتصالات بين العراق والكويت، قيل أن حجة الكويت كانت بأنها بنفط الرميلة إنما تسترد ديونها من العراق، أي أنها اعتبرت معوناتها للعراق أثناء الحرب ديوناً. وكان رد العراق على أن هذه الأموال كانت للدفاع عن دول الخليج، وأنه يطالب كل دول الخليج التي تبرعت له أثناء الحرب بمزيد من المال لاستكمال ما أنفقه العراق في الحرب دفاعاً عنهم”.
وتابع أبو عودة قائلا :” تحوّل النزاع الذي عرِف به جلالة المرحوم وعدد من الدول إلى نوع من المهاترات التي كانت تدفع باتجاه نزاعات مسلحة. فبادر جلالته للتدخل والقيام بدور وسيط الخير بين العراق والكويت. وفي 30/7/1990 طار جلالته إلى بغداد ورافقه رئيس الديوان الملكي المرحوم زيد بن شاكر وأنا. وفتح سيدنا موضوع خلاف صدام مع الكويت للتعرف على حقيقة الموقف العراقي ليكمل وساطته مع الكويت، وكان ذلك بحضور المرحوم الشريف زيد وحضوري وحضور المرحوم طارق عزيز وطه ياسين رمضان، تحدث المرحوم صدام بألم وغضب عن موقف الكويت، وبيّن لسيدنا موقف الكويت ونظرة العراق لقضية المعونات التي اعتبرها أقل بكثير مما أنفقه لحماية عروبة الخليج. وفهمنا منه أن موقفه النهائي سيتبلور لدى عودة نائبه عزت إبراهيم الذي كان في جدّة يفاوض المرحوم الشيخ سعد الصباح ولي عهد الكويت. التحق بنا في اليوم التالي 31/7/1990 دولة مضر بدران رئيس الوزراء وتوجهنا إلى مطار الكويت عند الظهيرة وبقينا في مبنى استضافة المطار حتى أنهى جلالتة محادثاته مع أمير الكويت في غرفة خاصة، وبعد انتهاء المحادثات عدنا إلى عمان، وأخبرنا سيدنا أن سمو أمير الكويت أبدى وجهة نظره، وأنه ينتظر هو الآخر عودة الشيخ سعد من جدة”.
وزاد أبو عودة: “في صبيحة 2/8/1990 أي بعد عودتنا بيومين، استُدعيت للحضور إلى الديوان مبكّراً. كان جلالته قد سبق بحضوره رئيس الوزراء ورئيس الديوان. أخبرنا جلالته أن المرحوم الملك فهد أيقظه من نومه ليخبره أن القوات العراقية دخلت الأراضي الكويتية، فوجئ الجميع بالخبر، وقال جلالته إنه قدّر من غضب صدام أن أقصى ما يمكن أن يفعله في حالة فشل المفاوضات هو احتلال حقل الرميلة، أما دولة الكويت فتلك مصيبة، وشرع جلالته بالعمل، فاتصل بصفته الرئيس الدوري لمجلس التعاون العربي في ذلك الوقت بالأعضاء واحداً واحداً. طلب المرحوم صدام، فجاءه الجواب أنه في غرفة العمليات ولا يستطيع أخذ المكالمة، ثم تلاه بالاتصال بالمرحوم علي عبدالله صالح الذي فوّض سيدنا بتمثيله في ما يراه من حلول بعد أن أوضح له سيدنا أنه سيعمل على إيجاد حل عربي لسدّ الطريق أمام التدخل الأجنبي، وأخيراً اتصل بالرئيس مبارك، وقال له إنه قادم للقاهرة لبحث الأمر معه، فرحّب وكانت القاهرة في ذلك الوقت تستضيف وزراء خارجية المؤتمر الإسلامي. سافر سيدنا إلى القاهرة، وذهبنا بمعيته في مهمته القومية المتمثلة بحل المشكلة دبلوماسياً بين عضو في الاتحاد العربي ودولة شقيقة حتى يمنع أي تدخل أجنبي قد يزرع الفوضى والأحقاد في الإقليم في وقت بدأنا فيه كعرب نتنفس الصعداء بانتهاء الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثمان سنوات”.
” منذ البدء، عبّر جلالة المرحوم عن خشيته من التدخل الأجنبي عسكرياً، وبعد الاتصال بعدد من القادة العرب مباشرة في عواصمهم، لاحظ جلالته انقساماً ما في مواقفهم؛ فكان منهم من أيّد توجه جلالته نحو الحل العربي، ومنهم من وقف علناً مع الموقف الأمريكي، وهكذا لم يتمكن من جمعهم حول الحل العربي كمجموعة عربية ذات وزن، طبعاً باستثناء دول الخليج التي اعتبرت نفسها طرفاً ثانياً في النزاع ، وبالنسبة لجلالته أصبحت الأزمة كيف نتجنّب في الأردن هذه الحرب ونتائجها. أي الوقوف على الحياد في حالة وقوع حرب. ففي موقف الحياد كان لا يمكن للمرحوم صدام أن يلومنا بعد أن حاول سيدنا إقناعه بالانسحاب من الكويت ولم يستجب، ولا لدول الخليج أن يلومونا لأنهم كانوا يعرفون بصدق محاولات سيدنا لإقناع صدام بالانسحاب، ولا الولايات المتحدة التي اتصل برئيسها بوش واجتمع به في ولاية Mane ليقنعه بدعمه في التوصل إلى حل سلمي، ليكتشف بأن الولايات المتحدة كانت قد أخذت قرارها لإخراج القوات العراقية بالقوة العسكرية من الكويت. كما تأكد له الموقف الغربي بنيّته في ضرب العراق أثناء مقابلته لرئيسة الوزراء البريطانية السيدة ثاتشر، كنت مصاحباً لسيدنا في المقابلتين. إذ بعد محاولات سيدنا باتصاله بالعرب والولايات المتحدة وبريطانيا، تشكّلت الأزمة بوضوح أمام جلالة المرحوم، واتخذ قراره الحكيم بالوقوف على الحياد كما بيّنت. وكي يتأكد من نجاح هذا الموقف بعثني إلى بغداد يوم 31/12/1990 برسالة شفوية للمرحوم صدام. أما الرسالة فكانت عبارة عن جملة واحدة هي: “جلالة سيدنا يطلب من فخامة الرئيس ألا يستخدم الأجواء الأردنية إذا وقعت الحرب”. استقبلني في مطار المثنى في بغداد المرحوم طارق عزيز، وذهبنا إلى المبنى البديل لمبنى رئاسة الوزراء الرسمية بسبب الاستعداد للهجوم العسكري المتوقع. قيل لي إن المرحوم صدام كان في القيادة العسكرية، فبلّغت الرسالة لرئيس الوزراء بحضور طارق عزيز، وعدت إلى عمان، كان يخشى جلالته إذا وقعت الحرب أن يستخدم الطيران العراقي لضرب إسرائيل، وبالمقابل تقوم إسرائيل بالطيران في أجوائنا لضرب العراق. وفي هذه الحالة كان لا يمكنه أن يقبل لنفسه بمرور الطيارات الإسرائيلية من الأجواء الأردنية لضرب الجيش العراقي، إذ لابد من التعرض لها. وهكذا ينتهي موقف الحياد الذي اختاره، ولذلك قام بإبلاغ العراق أولاً. وكي يتأكد أن إسرائيل هي الأخرى لا تستخدم الأجواء الأردنية، قام بإيصال رسالته المشابهة للرسالة التي حملتها لبغداد ولكن بالقنوات الدبلوماسية بأن الأردن سيقف على الحياد، ومن أجل ذلك طلب من بغداد ألا تستخدم أجواءنا، ويطلب من إسرائيل ألا تفعل ذلك هي الأخرى، وهكذا كان، أي حافظ الأردن على حياديته، فلا المرحوم صدام يمكن أن يلومه ولا حلفاءنا الغربيين. ومع ذلك عاقبتنا الولايات المتحدة على موقف الحياد حينما أوقفت ضخ النفط عبر خط التابلاين الموصل إلى مصفاة البترول في الزرقاء. ففي عام 1989 كان الأردن يحصل على 85%من حاجاته النفطية من العراق، ويحصل على 15% من المملكة العربية السعودية عبر خط التابلاين وبقي الحال كذلك حتى اليوم مع خط التابلاين”.
(الدقامسة وخالد مشعل)
“في الثالث عشر من آذار/ مارس 1997 أطلق جندي أردني (أحمد الدقامسة) النار على فتيات إسرائيليات كنّ في رحلة مدرسية لمنطقة الباقورة شمال وادي الأردن. قُتلت سبع طالبات وجُرحت ستّ، قام جلالة المرحوم الغاضب مما حصل بزيارة أهل القتيلات وقدم تعازيه لهم، وصُوِّر هذا الحدث وظهر في مختلف وسائل الإعلام العالمية. لم يستوعب الأردنيون وعموم العرب أهمية البعد الإنساني في هذه المبادرة الملكية، وفي 25 أيلول/ سبتمبر؛ أي بعد نحو ستة أشهر، حاول رجال من الموساد الإسرائيلي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السيد خالد مشغل في أحد شوارع العاصمة. وقد وقع الحادث في اليوم نفسه الذي اجتمع فيه وفد إسرائيلي عسكري وآخر مدني مع جلالة المرحوم. الأمر الذي جعل المرحوم يستشيط غضباً. اكتشف الأطباء الأردنيون في مستشفى المدينة الطبية أن الموساد حقنوه بإبرة سامّة، وألا حل لإنقاذ حياته إلا بإحضار الترياق الذي يبطل أثر السم في جسم المصاب، تحرك المرحوم بسرعة، وطلب من الحكومة الإسرائيلية إرسال الترياق. وكان الأمن الأردني قد تمكن من إلقاء القبض على اثنين من الموساد الجناة. وضع المرحوم الحكومة الإسرائيلية أمام خيارين: في حالة وفاة خالد مشعل سيكشف الأردن هوية العملاء الإسرائيليين، وقد ألقى القبض على اثنين منهم، وسيحاكمهما علناً، وسينفذ حكم الإعدام بحقهما، أو أن تُبادر الحكومة الإسرائيلية بالاعتراف بجريمتها وتقدم الاعتذار والترياق لإنقاذ حياة خالد مشعل. كان هناك سباق مع الزمن، حيث قرأ جلالته ردات الفعل الأولية للحكومة الإسرائيلية بأنها سياسة مماطلة. فشدّد على إسرائيل وهدّدها، إما معاهدة السلام أو حياة مشعل، فاستجابت حكومة إسرائيل بسرعة، وأرسلت مدير المخابرات الإسرائيلي إلى عمان ومعه الترياق المطلوب، وأنقذت حياة مشعل. وقبل تسليم عميلي الموساد، طلب الملك من إسرائيل إطلاق سراح المرحوم الشيخ أحمد ياسين فوافقت. كان سلاح المرحوم في هذا كله سلاح الإنسانية البتّار الذي اكتسبه من تعزيته لأهل الثكالى من حادثة الترياق، وشاهده العالم والذي أثر على الشعب الإسرائيلي، وعلى كل المنظمات الدولية الإنسانية، فلم يكن بإمكان نتنياهو أن يماطل حتى يموت مشعل ويفاوض بعدها على إطلاق سراح الجناة”.
بدوره قال رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية الدكتور موسى شتيوي أن هذه المحاضرة جاءت ضمن سلسلة نشاطات برنامج “كرسي الملك الحسين للدراسات الأردنية والدولية” الذي أنشئ بدعم ومباركة من جلالة الملك عبداالله الثاني، ومن باب الوفاء والعرفان للملك الباني.
وأضاف في المحاضرة التي حضرها رئيس الجامعة الأردنية الدكتور عزمي محافظة، ووزراء وأعيان ونواب سابقين وإعلاميين وأكاديميين وأعضاء النادي الأرثوذكسي، أن برنامج “كرسي الملك الحسين” الأكاديمي يهدف إلى استحضار إرثه الخالد، وإحياء ذكراه العطرة، وتوثيق مسيرته التاريخية، وإجراء الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمرحلة حكمه، ولنتوصل من خلال ذلك إلى قراءة أردنية أكاديمية للأحداث التاريخية والمحطات المفصلية.
وأشار شتيوي إلى أنه مرّ الأردن منذ تبوؤ جلالته الحكم، أزمات كبيرة وخطرة، بعضها كان خارجياً إقليمياً ودولياً، وبعضها الآخر كان داخلياً، لكن جلالته استطاع بحكمته المعهودة وقيادته الفذة ذات البُعد الاستراتيجي والإنساني، وتلاحم الأردنيين حوله، من العبور بالأردن وأهله إلى بر الأمان، وكانت هذه الصفات القيادية بحق سرّ نجاح جلالته، حتى غدا أسلوبه في الحكم مدرسة ونهجاً حكيماً وعقلانياً، يتجلى بأبهى صوره في قيادة جلالة الملك عبد الله الثاني.