بلال العضايلة
أجرت طهران “محادثات في الملف النووي” مع الدول الأوروبية الثلاث الأعضاء في اتفاق عام 2015 النووي، ودون مشاركة الولايات المتحدة، ضمن مسعى أوروبي لتقليص فجوات المواقف ومحاولة بناء ثقة تفاوضية بعد الانهيار الدراماتيكي الذي تعرضت له سلسلة الجولات التفاوضية إثر شن إسرائيل “حرب” محددة الأهداف بلغت ذروتها بانخراط البنتاغون في العمليات وقصف المراكز النووية الثلاث التي تعبّر عن الثقل الحيوي للبرنامج النووي الإيراني.
ولذلك، تأتي جلسة المحادثات الأوروبية الإيرانية في توقيتٍ حساس لا تزال الساحة الايرانية فيه مفتوحة على أكثر من احتمال، وسط ترقب لما ستسفر عنه جولة “شد الأعصاب” هذه بين طهران من جهة والطرف المقابل ممثلا بالولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، فما بين عودة محتملة إلى طاولة المفاوضات النووية أو انهيار اتفاق الـ”Gentelmen” لوقف اطلاق النار الهش وغير المدوّن بين كلا الطرفين، تجهد أطراف إقليمية ودولية لتجنيب الأمن والاستقرار الدولي مخاطرَ الانزلاق إلى أتون سيناريوهات متطرفة من الاشتباك الواسع النطاق الذي قد تنهار معه البنية الأمنية المحيطة بمجال إيران الحيوي.
ومع تهديد الدول الأوروبية الثلاث الأعضاء في اتفاق 2015 النووي – المنهار عملياً- بتفعيل آلية سناب باك التي تعيد فرض العقوبات الأممية على إيران، وتمسّك واشنطن ومعها تل أبيب بمبدأ “صفر تخصيب” القاضي بتضمين أي اتفاق نووي قادم نص صريح بعدم تخصيب أي يورانيوم داخل الأراضي الإيرانية؛ تضيق مساحة الدبلوماسية أكثر وأكثر ولتطغى التقارير شبه اليومية التي تتحدث عن استمرار التفجيرات الغامضة والاغتيالات والحوادث الأمنية في العمق الإيراني.
كل ذلك يضغط على عصب صانع القرار الإيراني الذي يجد نفسه محاصراً إما بالقبول بنزع قدراته النووية عملياً، أو بتحمّل تحرّك عسكري قد لا يكون مقتصراً على ضربات أمريكية إسرائيلية بل قد يمتد وصولاً إلى اطلاق دوامة من التصعيد تنتهي بـ”الانهيار غير المحسوب” للبنية السياسية الاجتماعية في طهران.
تبين ورقة التنبيه السياسي التالية الأشكال المحتملة لهذا الانهيار، كما تحذر من المخاطر المترتبة على انهيار الاستقرار في إيران وما قد يترتب على ذلك من تداعيات إقليمية ودولية لا يمكن التعايش معها. ولا تتبنى هذه الورقة موقفاً داعما أو مناهضاً لاستمرار الوضع القائم وإنما تهدف إلى تقديم رؤية تقنية موجزة لما قد يقود إليه تحلل إيران وفقدان الحكومة المركزية زمام السيطرة على الجغرافيا الإيرانية.
نظرة على مكامن القوة الإيرانية
قدّم أهم منظري المدرسة الواقعية الجديدة الهجومية، جون ميرشايمر، تأصيلاً نظرياً لعناصر القوّة الوطنيّة للدولة والتي شملت عناصر تتجاوز البعد العسكري لاعتقاد الواقعية الهجومية بأن حيازة قدرات عسكرية تتطلب تضافر مجموعة من العناصر التي تسمح للدولة بنيل مكانة عسكرية رادعة وضاربة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة.
بإسقاط هذه العناصر – أي عناصر القوة الوطنية للدولة – على واقع إيران يُلاحظ أنها كدولة لا تزال قوية، فعلى صعيد المساحة تقع في المرتبة 17 عالمياً بمساحة تبلغ 1.64 مليون كم مربع، وزاد عدد سكانها عام 2023 عن 90 مليون نسمة.
وأرقام المساحة والسكان تدللان على العمق الاستراتيجي الكبير الذي تمتلكه طهران وهو ما يصعّب من قدرة أي قوة عظمى على احتلالها والسيطرة عليها عسكرياً. في المقابل، ومن أجل تقديم قراءة شمولية يمكن لهذه الأرقام أن تكون عامل ضعف لأن المساحة الشاسعة قد تصعّب من قدرة السلطة الإيرانية على السيطرة مما يسهّل على الطرف الساعي لاختراق العمق الإيراني تحقيقَ ذلك. وأيضاً عدد السكان الكبير يترتب عليه احتياجات سكانية يصعب تلبيتها في ظل عقوبات اقتصادية قاسية، كما أن كل حدود البلاد تقيم بها أقليات ناقمة (سيتم تفصيل ذلك في بند لاحق).
أما على صعيد الثروات الطبيعية، فتحوز إيران ثالث أكبر احتياط مثبت من النفط وثاني أكبر احتياط مثبت من الغاز، وثاني عشر أكبر احتياط من اليورانيوم، ويتردد وجود كميات تجارية من المعادن الأرضية النادرة، كالليثيوم، المهمة في الصناعات التكنولوجية.
عسكرياً، ووفق تصنيف Global Fire Power لعام 2025 – أي قبل المعركة الأخيرة – جاءت إيران في المرتبة 16 عالمياً مع ضرورة الإشارة إلى أن هذا التصنيف كمي يُهمل بعض العوامل الحاسمة كالقيادة والسيطرة والاتصالات والإشارة والاستخبارات، وهي كلها عوامل أثبتت المعركة الأخيرة أهميتها القصوى.
تجدر الإشارة إلى أن بعض التصنيفات الغربية والإسرائيلية تتعمد المبالغة في تقدير القوة الإيرانية من أجل بث رسائل إلى الجمهور بجدية هذه التهديد ومن أجل توفير الحجج والمصوغات لزيادة المخصصات المالية للإنفاق العسكري.
أما مصدر القوة الأهم لإيران فهو موقعها الجيوسياسي الرابط بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى؛ الإقليمين المهمين في اعتبارات النفوذ الدولي، وهي بموقعها تتشارك أيضا حدود مع دول القوقاز (اذربيجان وأرمينيا وجورجيا) والأهم أنها تشكل كامل الضفة الشرقية للخليج العربي وذات قدرة على التأثير في تدفق النفط عبر مضيق هرمز أحد أضيق الممرات المائية التجارية في العالم، إذ يمرّ عبره 20% من النفط المحمول بحراً وثلث الغاز المسال وما يعادل 1 ترليون دولار من شحنات السلع الأولية مثل الحبوب وخام الحديد والإسمنت.
إذاً، تظهر عوامل القوة الكلاسيكية أن إيران لا تزال تمتلك من مقومات التأثير ما يكفي لزعزعة الاستقرار الإقليمي والدولي، وحتى لو تم التسليم بتحطيم البرنامج النووي و”تبخر” اليورانيوم المخصب، فإنها لا تزال قادرة في لحظة ما على تفعيل “خيار شمشون” ونقل النار إلى ساحات أوسع
كيف يبدو الانهيار غير المحسوب؟
حتى في ذروة القصف على إيران، بقي التصعيد محسوباً وفق قواعد ضمنية حُيّدت فيها معظم المنشآت الحيوية المدنية كمصافي النفط وآبار المياه وشبكات الكهرباء ومخازن المواد الغذائية وشبكات الطرق البرية والموانئ والمطارات، كلّ ذلك يدلل على أن نية التصعيد الإسرائيلي – الأمريكي كانت منصبة على المنشآت النووية وبعض المرافق العسكرية، وتحديداً ذات الصلة بالدفاع الجوي والصواريخ البالستية.
ومما يدلل على أن التصعيد كان منصباً على البعد النووي والعسكري هو أن الحياة عادت بعد وقف إطلاق النار ببضعة أيام إلى “طبيعتها” التي كانت عليها قبل بدء الضربات الإسرائيلية، وكأن هنالك ادراك متبادل بضرورة ضبط التصعيد لتجنب سيناريوهات قصوى.
أحد هذه السيناريوهات هو “انهيار إيران” ولا يقصد بالانهيار سقوط النظام أو انهاء العمل بالدستور الحالي وإنما هو الحالة التي تختفي فيها مظاهر السيادة فلا تعود الحكومة قادرة على الوفاء بالتزاماتها الأمنية فتتحلل السيطرة وتتلاشى، وتظهر الميليشيات المسلحة والعصابات الإرهابية والإجرامية كبديل عن سلطة الدولة، وتظهر أنماط غير شرعية من إدارة المجتمع وتسيير الاقتصاد. وقد ينتج “الانهيار” بأشكال عدة، من أبرزها:
1- إنهاك العقوبات: تتعرض طهران منذ سنوات إلى عقوبات قصوى أثرت على كافة مناحي الحياة الاقتصادية، وسط ارتفاع للتضخم وسوء في الخدمات العامة الأساسية. وإذا ما تم التشديد في تطبيق هذه العقوبات وفرض عقوبات أخرى وافتعال أزمات معينة، فإن الشارع الإيراني قد يخرج عن صبره في انتفاضة تطيح بكامل البنية السياسية المجتمعية الحالية والتي وإن بدت متماسكة إلا أن منطق الثورات يُنبأ أن لحظة التغيير قد تحدث في أي لحظة، تماما كما جرى في سقوط شاه إيران ومبارك مصر.
2- انقلاب عسكري “هجين”: تعبّر الضربات الاستخبارية المركزة التي تعرض لها العمق العسكري والنووي في البلاد عن أثر يتجاوز البعد المادي المباشر إلى آخر سيكولوجي يتصل بمدى الثقة والاعتزاز القومي في الدولة ككل، كما أظهرت هذه الضربات حجم “محرج” من الاختراق والسيطرة المعلوماتية الذي يحوزه الطرف الآخر دون تمكّن الأجهزة الإيرانية من القيام بعمليات مكافحة تجسس “Counter – Intelligence” فاعلة.
ولا يعد مستحيلاً في هكذا بيئة قيام تمرد عسكري مصاحب لاضطراب مجتمعي مفتعل أو عفوي، وقد يُشعل هذا التمرد فتيل صراع أجنحة قاس بين المنظومة العسكرية، وتحديداً بين مكونات الجيش الإيراني والحرس الثوري وقوات الباسيج وغير ذلك من المكونات العسكرية الحكومية وشبه الحكومية.
3- ضربات عسكرية مكثّفة: يمكن لضربات عسكرية واستخبارية مكثّفة مطوّلة أن تقود إلى انهيار مزمن لا يمكن إصلاحه، بحيث تتلاشى مظاهر السلطة أمنيا واقتصاديا وإداريا.
4– صراع ما بعد المرشد: يبلغ عمر المرشد الإيراني، علي خامنائي، 85 عاماً وتعد مسألة خلافته حاسمة عند التطرق لمسألة الاستقرار في إيران لما للمرشد من صلاحيات وأدوار في الدولة، ناهيك عن مكانته وزعامته الروحية والدينية. وقد تطلق مسألة الخلافة صراعاً سياسياً دينياً بين الأقطاب المتنافسة التي يعبّر كل منها عن خصوصية دينية سياسية معينة.
ربما يبدو من المبالغ به افتراض أن مرحلة ما بعد المرشد الحالي قد تكون مزعزعة للاستقرار الإيراني، لكن معظم الأسماء المتداولة لخلافة المرشد – بحسب تقارير متخصصة – لا تحمل كاريزما الزعامة الروحية ولا الإجماع الديني، فلا يوجد من هو قادر على ملئ فراغ خامنائي والقيام بأدواره في ضبط التوازنات المعقدة داخل المنظومة الإيرانية. بهذا الاتجاه لا يعد مبالغاً به افتراض وقوع قلاقل مؤثرة في مرحلة ما بعد خامنائي لا سيما وأن قطاع عريض من الإيرانيين “سئم” من مظاهر الحكم الديني وتبعاته.
هذه الأشكال الأربع للانهيار في إيران قد يكون ممكناً السيطرة عليها، ولكن قد يتحول الانهيار إلى اضطراب مزمن ينتج عنه تغيرات دائمة، كتفكك إيران الحالية إلى دول أقليات تشكل فيها كل مجموعة اثنية إقليمها الخاص، أو عبر سيادة الفوضى واختفاء السيطرة على مقاليد تسيير شؤون الدولة البسيطة، كضبط الحدود وتوفير الأمن واحتياجات المواطنين الأساسية والعلاقات الدبلوماسية.
تداعيات الانهيار
قد يظن بعض المتحمسين لفكرة التغيير القسري للنظام في طهران أن المكاسب الاستراتيجية المتأتية من هذا التغيير ستفوق الكلف المترتبة عليه، وأن بالإمكان السيطرة على الانهيار الشامل المحتمل وقوعه. إن افتقار الجغرافيا الإيرانية الواسعة – تقع في المرتبة 17 عالميا من حيث الأكبر مساحةً ويقيم عليها أكثر من 90 مليون نسمة لا يشكل الفرس منهم سوى أقل من 65% – إلى وجود حكومة مركزية مسيطرة سيترتب عليه متتالية متصاعدة من المخاطر التي ستقوض الأمن والسلم الإقليمي والدولي. ومن هذه المخاطر:
1- أزمة لجوء كبرى: تتشارك طهران حدود مع آسيا الوسطى – أفعانستان وباكستان – ومع القوقاز – أذربيجان وأرمينيا – ومع أوروبا -تركيا- والشرق الأوسط – العراق والخليج العربي. من شان اندلاع أزمة لجوء إيرانية أن يرهق كاهل دول الجوار، وخصوصاً العراق الذي سيجد نفسه مجبراً لاعتبارات مجتمعية على تبني سياسة الحدود المفتوحة. أما تركيا فستتحول إلى معبر للطامحين إلى الهجرة نحو العمق الأوروبي كما حصل في أزمة اللجوء السوري. ولأن الشيء بالشي يذكر ستتجاوز تداعيات اللجوء الإيراني إن وقع اللجوءَ السوري، فعدد سكان إيران يبلغ تقريباً ثلاث 3.5 ضعف عدد سكان سوريا، وامتدادات إيران الجغرافية متشعّبة أكثر من نظيرتها السورية.
2- انفلات السلاح والعصابات الإجرامية: تنتشر في طهران مئات آلاف القطع العسكرية الخفيفة والمتوسطة التي يمكن للمدنيين استخدامها، والتي لا تحتاج إلى تدريب خاص أو إلى منظومة تشغيل، كالبنادق الرشاشة. كما أن عدد الإيرانيين الذين نالوا تدريب عسكري في المؤسسات العسكرية والأمنية كبير جداً نظراً لحالة التعبئة التي تشهدها البلاد منذ عقود. وهو ما يعني أن أي انهيار للسيطرة الحكومية في طهران سيطلق يد عشرات ألوف المسلحين الذين قد ينتظمون في عصابات منظمة إجرامية لغايات الاتجار بالمخدرات مثلاً أو تهريب السلاح. وشاهد العالم كيف تشكل في سوريا أكبر كارتيل للمخدرات في العالم عندما تلاشت السلطة الشرعية وتصدّرت الأدوات غير الرسمية في تسيير المشهد السوري.
3– تفشّي الإرهاب: لن يقبل المعتنقين بفكرة الولي الفقيه سقوطها، وسيجاهدون بالنفس والمال في سبيل تعويض ما خسروه روحياً وثقافياً. ونظراً لانتشار السلاح كما جاء في البند السابق سيكون سهلاً على كثير من هؤلاء المعتنقين تشكيلَ تنظيمات إرهابية تعتنق فكراً متطرفاً وتمارس العنف لتحقيق غاياتها السياسية.
ومما يفاقم من اضطراب هذه البيئة الأمنية هو أن طهران تعد معقل لكثير من التنظيمات المصنفة إرهابياً، كقيادات من القاعدة، بالإضافة إلى وجود حواضن مجتمعية عند الأقليات لممارسة العنف المنظم.
4- تطوير قنبلة نووية “قذرة”: تعرف أيضاً بالقنيلة الاشعاعية، وهي مزيج من عناصر مشعة ومتفجرات تقليدية، نطاق وحجم تدميرها أقل من القنابل النووية، فهي لا تشعل سلسلة تفاعلات نووية مدمرة ولكنها تظل خطرة نظراً لسهولة تطويرها مقارنة بالسلاح النووي، وفي الحالة الإيرانية فإن مسألة الوصول إلى خبراء نوويين ليست صعبة، ويمكن لجماعة ارهابية اختطاف بعض منهم لإرغامهم على تطوير قنبلة نووية قذرة واستخدامها داخل أو خارج إيران.
5- إعادة رسم حدود الدول المحيطة: في حال تفكك إيران إلى دول أقليات فإن ذلك قد يضع الدول المجاورة أمام مأزق جيوسياسي يتطلب سرعة وحسن الاستجابة، ذلك أن حدود إيران يقيم فيها أفراد يتشاركون تقارب اثني مع الدولة المجاورة، فشمال إيران يقيم الأذريون في الحدود المشتركة مع أذربيجان، وفي الشمال الغربي يتهيأ أكراد إيران لانتهاز أي فرصة لتعميق العلاقات مع أكراد العراق، وعلى امتداد ساحل الخليج العربي يقيم عرب الأهواز الذين يساور كثير منهم طموح العودة إلى بدايات القرن العشرين عندما كان لهم كيان سياسي خاص، وفي الشمال الشرقي يقيم التركمان بجوار دولة تركمانستان، وحتى الحدود الإيرانية مع أفغانستان طالبان وباكستان تقيم فيها قبائل البلوش المنتشرة أيضاً في أفغانستان وباكستان.
وعليه، تظهر خارطة الانتشار الاثني (القومي والطائفي) حجم التعقيد في البنية المجتمعية الإيرانية وكيف أنها تتشارك روابط مع الدول المحيطة، مما يجعل من مسألة تفكك إيران مقدمة لإعادة رسم الدول المحيطة بها.
6-اضطراب سلاسل التوريد: كما جاء في جزء سابق من هذه الورقة، يعبر مضيق هرمز 20% من النفط المحمول بحراً وثلث الغاز المسال وما يعادل 1 ترليون دولار من شحنات السلع الأولية، وهو يعد منفذ بحري حصري للإمارات والعراق وقطر والبحرين والكويت. ونظراً لانتشار الخبرة العسكرية في إيران بين المواطنين على نطاق واسع، فإنه يمكن للجماعات الإجرامية والإرهابية الإخلال بتدفق سلاسل التوريد عبر هذا المضيق.
إن هذه الارتدادات الوخيمة لانهيار إيران على الأمن والسلم الدولي والإقليمي ستطيح بأي هندسة جارية للشرق الأوسط، فحتى شرق أوسط ما بعد السابع من أكتوبر الذي تروج له حكومة نتنياهو على أنه التجسيد لرؤيتها الإقليمية القائمة على فرض الوقائع بالقوة سيتهاوى أمام متتالية انهيار إيران. كما أن دول المنطقة الرئيسية، كالسعودية وتركيا ومصر، ستتحمل أعباء قاسية جراء هذا الانهيار ولن يكون الواقع المتشكّل كما قد يظن البعض بأنه عبارة عن التخلص من خصم ومنافس إقليمي.
توصيات أمام الدول العربية الرئيسية
تشير متلازمة الانحياز للحالة الطبيعية إلى حالة سيكولوجية يميل فيها الفرد/ الجماعة أو حتى الدولة إلى افتراض استمرارية الوضع القائم دون تغيير جذري. وتنبِئ الأزمات السياسية بأن من المخادع التسليم المطلق باستمرارية أي وضع قائم، فحتى الدول العظمى في لحظة ما تتعرض للانهيار كما جرى مع الاتحاد السوفياتي ومع الامبراطورية البريطانية. بهذا الاتجاه ينبغي التعامل بحذر مع مسألة الاستقرار في إيران حتى لا تقع “بجعة سوداء” أمام أعين المراقبين، وهي بالمناسبة ليست سوداء تماماً أي ليست مستبعدة تماما لأن كثير من الدلائل والمؤشرات تشي بوضوح على عمق الضرر البنيوي في الداخل الإيراني.
ولذلك ترى هذه الدراسة أنه من الضروري تقديم توصيات فيما يتعلق بحالة الاستقرار في إيران، رغم أن التوصيات في هذا السياق تبدو مسألة بديهية وتدور في فلك “الحفاظ على الاستقرار في إيران” بمعزل عن أي اعتبارات سياسية، فسواء تم النظر إلى الأمر من زاوية إسرائيل الرافضة بالمطلق للسياسات الإيرانية أو من زاوية طهران نفسها أو من زاوية دول المنطقة الباحثة عن تأمين مصالحها، أو من زاوية تنافسية القوى العظمى، فإن لا أحد، بالمطلق، يستطيع تحمل التداعيات الوخيمة المترتبة على انهيار الاستقرار في إيران.
وحتى لا يبدو الكلام تنظيراً أجوف، يمكن للدول العربية الرئيسية مراعاة ما يلي عند التعاطي مع المسألة الإيرانية:
1- الاستمرار في الوساطات، والضغط لعدم تقييد المفاوضات بإطار زمني بل إعطاء هامش واسع لحين نضوج تسوية مرضية. وأثبتت الحرب المصغرة الأخيرة بين إسرائيل وإيران أن الدول العربية لا تريد تصعيداً غير محسوب، فانهمكت بعض الدول، وتحديداً السعودية، في دبلوماسية صامتة لخفض التصعيد ومحاولة بناء وقف لإطلاق النار. وفي أوج الضربات كانت العواصم العربية تصدر بيانات ومواقف تعبر عن رفض الاعتداء على السيادة الإيرانية وتدعو للعودة إلى طاولة المفاوضات.
وحتى لا تكون هذه المواقف منعزلة عن التأثير الواقعي فإنه يمكن لدول عربية مؤثرة الانخراط في مناورات الضغوط/الحوافز سواء مع طهران أو حتى مع تل أبيب.
2- رهن أي تغيير عربي في العلاقة مع تل أبيب بحل المسألة الإيرانية سلمياً، فإن كانت الرياض ترهن الاعتراف الدبلوماسي بإسرائيل بشرط إقامة الدولة الفلسطينية، فإنه يمكن توسيع نطاق الشروط ليشمل مجمل البيئة الشرق أوسطية.
في المقابل، يتعين على إيران في هكذا سيناريو “تصالحي” تقديم ضمانات حقيقية وجادة على وجود إرادة صلبة لتغيير بعض مظاهر سلوكها الإقليمي المزعزع للاستقرار، فصحيح أن الجماعات المدعومة إيرانياً في لبنان تعرضت لهزة لا يمكن ترميمها إلا أن الساحتين العراقية واليمنية لا تزالان ورقة مهمة في خزينة الأصول الإقليمية الإيرانية بطريقة أو بأخرى.
3- التنسيق مع روسيا والصين، والعمل على بناء موقف دولي متزن توافقي تجاه المسألة الإيرانية بحيث لا تكون الرؤية الأمريكية هي الوحيدة في هذا الشأن. ولا يعني ذلك التصادم مع هذه الرؤية بقدر ما هو البحث عن موازنتها عبر بكين وموسكو، فكلا العاصمتين يمكنهما المساهمة في نزع فتيل الأزمة واقناع كلا الطرفين، إيران وإسرائيل، بضرورة التوصل إلى حل توافقي، ذلك أن كلا العاصمتين يحافظان على قنوات اتصال مؤثرة مع كلا الطرفين.
الخاتمة
لا تهدف هذه الورقة إلى تبني استمرارية البنية الاجتماعية السياسية في إيران ولا إلى الرضوخ إلى الحجج الإيرانية المحذرة من توسع “النار”، فهي ورقة “تنبيه سياسي” تحذّر من سيناريو تشاؤمي يجب أخذه في عين الاعتبار حتى لو كانت احتمالات وقوعه ضئيلة، ذلك أن تأثير ذلك الوقوع سيكون عاصفاً بالإقليم المحيط بإيران وهو يشمل الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى وحتى أوروبا (عبر الحدود مع تركيا).
لذلك كان لزاماً إطلاق هذا التنبيه الذي يتجاوز التداعيات السياسية الضيقة، إذ بينت الورقة أن الأمن والسلم الدولي والإقليمي سيواجه مأزق حقيقي بانهيار الاستقرار في إيران.