تقدير الموقف

بلال العضايلة

وسط حربٍ طالت دون مبرر، ووسط تزايد السخط العام في أوروبا، يشهد الاتحاد الأوروبي حراكاً جماعياً على صعيد الاتحاد ومنفرداً على صعيد دول رئيسية، يُعنى بإدارة العلاقة مع تل أبيب، إذ أظهرت أوروبا مؤخراً غضبة من السلوك الإسرائيلي في أكثر من اتجاه. وممّا أعطى هذه الغضبة زخمها السياسي أنها تأتي في وقتٍ تشهد فيه حكومة نتنياهو أزمة كامنة مع إدارة ترامب على خلفية ذات المسألة : استمرار الحرب دون وجود أفق سياسي لوقفها. 

وخضع التغير النسبي في الموقف الأوروبي تجاه إسرائيل لكثير من التحليل والتفسير بين مهوّل يراها نقطة تحول وبين مهوّن يعتبرها مجرد حالة نفسية مؤقتة لا تحمل مقومات الاستمرارية والتأثير. وبين هذا وذاك لا بدّ من تقديم قراءة موضوعية تقيم الموقف بعيداً عن الأحكام المسبقة، هو ما يسعى له تقدير الموقف التالي الذي يستعرض الظروف الأوروبية العامة المرافقة للتوتر مع إسرائيل، ويرصد أبرز دلائل هذا التوتر ويحاول تقديم لمحة موجزة لمسارات التوتر الإسرائيلي الأوروبي الحالي.

البيئة الأوروبية الحاضنة للتوتر مع تل أبيب

في استطلاعٍ للرأي أجرته مجموعة “YouGov” حول توجهات الرأي العام في الدول الأوروبية الرئيسية حيال الموقف من حرب إسرائيل على غزة، أظهرت النتائج تحوّلاً ملحوظاً بعيداً عن قبول السياسات الإسرائيلية، إذ بلغت نسبة من كان يؤيد اسرائيل في حربها على غزة ومن ثم غير رأيه في الدول الأوروبية الرئيسية الثلاث بريطانيا، فرنسا، ألمانيا (37%، 26%، 38%) على الترتيب. وفقط 15% ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون أن إسرائيل تتصرف عسكرياً بطريقة متناسبة بعد 7 أكتوبر[1].

جرى الاستطلاع في نوفمبر 2024، ويتوقع أن الاتجاهات الشعبية المناوئة للسياسات الإسرائيلية قد تعمقت بعد كسر الحكومة الإسرائيلية لهدنة يناير 2025 التي استمرت لأكثر من 42، ولرفضها أكثر من صيغة لإنهاء الحرب. فالحرب طال أمدها دون وجود مبرر سياسي، إذ أن الأهداف العسكرية انتهت – اسرائيل تسيطر عسكرياً على 77% من مساحة غزة[2]، والقيادة العليا من القسام تم تصفيتها، وقدرة حكومة حماس على الحكم المدني انتهت.

كما أن الحركة أبدت تنازلات في المفاوضات من حيث عدد السجناء المطلوب إخراجهم من مراكز السجون الاسرائيلية، وأيضاً قبلت بتقليص حاد لحضورها في المشهد السياسي في ما بعد غزة. باختصار حماس تريد وقف الحرب وانسحاب إسرائيل والإفراج عن عدد من الأسرى يقل نسبياً عن الأسرى الذين تم الإفراج عنهم في صفقة وفاء الأحرار عام 2011 عندما كان نتنياهو أيضاً رئيساً للحكومة  (تم الإفراج عن أكثر من ألف فلسطيني مقابل جندي إسرائيلي واحد) في حين لا تزال ترسانة الأهداف الإسرائيلية تعج بالذخائر السياسية مسنودةً بفائض قوة وبموقف سياسي متطرف.

بالإضافة إلى طول أمد الحرب دون طائل، ثمة عامل آخر مهم يتصل بالبيئة الأوروبية تجاه الحرب على غزة، وهو أن أوروبا تريد وضع مسافة مع واشنطن المنحازة نسبياً لروسيا ضد أوكرانيا، صحيح أن إدارة ترامب تمر في أزمة صامتة مع حكومة نتنياهو إلا أن الموقف الأوروبي – كما سيوضح البند التالي – ذهب بعيداً في “الخصام السياسي” مع تل أبيب. وتُحرّر التباينات الأوروبية الأمريكية الموقفَ الأوروبي من ضرورات التنسيق السياسي مع واشنطن حيال الأزمات الدولية، بما فيها العلاقة مع إسرائيل.

دلائل التأزم

من الطبيعي والمتكرر أيضاً وقوع توتر بين دولتين صديقتين خصوصاً إذا كانت مجالات التعاون والتشارك متعددة، وقد تبدو للوهلة الأولى بعض الأنباء القادمة من بعض العواصم الأوروبية على أنها توتر محدود بين صديقين، ولكن سياق الأحداث يظهر تبني الاتحاد الأوروبي ودوله الرئيسية – بالإضافة إلى بريطانيا المنسحبة من الاتحاد الأوروبي والتي يسيطر فيها حزب العمال اليساري على أغلبية غير مسبوقة – لما يمكن اعتباره استراتيجية منسقة للتعامل مع تعنت الحكومة الإسرائيلية تجاه استمرار الحرب. ومما يدلل على وجود تنسيق ما هو تزامن عدة مواقف في الأسابيع الأخيرة، أبرزها:

1- إعلان الاتحاد الأوروبي عزمه مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل: يؤطر الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ عام 2000 لكل أوجه التعاون بين الاتحاد وإسرائيل بما فيها اتفاقية التجارة الحرة، وقد دعا القرار الصادر عن مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، في 20 مايو 2025 إلى فحص فصل حقوق الإنسان في اتفاق الشراكة، وفحص ما إذا كانت إسرائيل تلتزم به.

 وقد لا يقود القرار إلى تعليق أو إلغاء للاتفاقية ولكن مجرد إجراء فحص لغايات إنسانية يضع إسرائيل في حرج سياسي ويزعزع من سرديتها وروايتها وبالتالي من شرعيتها السياسية على المستوى البعيد.

كما أن هذا القرار الصادر عن الاتحاد الأوروبي كمؤسسة وليس عن عدة دول أوروبية – صوت على القرار 17 دولة من أصل 27 – قد يفتح المجال لتجرؤ دول أوروبية على اتخاذ قرارات بتقليص التبادل التجاري مع إسرائيل، وهو ما قد يكون له ارتدادات على الاقتصاد الإسرائيلي لأن الاتحاد الأوروبي هو شريكه التجاري الأول، إذ وصل التبادل التجاري عام 2024 إلى 42.6 مليار يورو (48.5 مليار دولار)[3].

2– إصدار قادة  فرنسا وبريطانيا وكندا تحذير شديد اللهجة لتل أبيب: سبق إعلان الاتحاد الأوروبي صدور تحذير غربي ثلاثي باتخاذ إجراءات “ملموسة” ضد إسرائيل، من بينها العقوبات، ما لم توقف الحرب على غزة وتسمح بإدخال جدي للمساعدات، كما رفض البيان الثلاثي توسيع المستوطنات في الضفة الغربية.

3-اتخاذ بريطانيا حزمة من الإجراءات: تزامناً مع إعلان الاتحاد الاوروبي مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، أعلنت الحكومة البريطانية تعليق محادثات صياغة اتفاقية للتجارة الحرة مع اسرائيل، واستدعاء سفيرة إسرائيل في لندن، تسيبي حوتوفلي، على خلفية توسيع العمليات العسكرية في قطاع غزة.
كما فرضت لندن عقوبات ضد مستوطنين في الضفة الغربية وكيانات تتبع رداً على العنف الممنهج ضد الفلسطينين.

4-مؤتمر حل الدولتين: قد يكون هذا المؤتمر الذي سيعقد في يونيو 2025 هو المؤشر الحقيقي لعلاقة أوروبا الحالية مع حكومة نتنياهو، فنجاح الحشد الدولي للمؤتمر الذي ترأسه السعودية وفرنسا سيعتمد على حجم المشاركة الأوروبية وعلى طبيعة الإجراءات والقرارات المنبثقة عنه.

وتترقب الأوساط الدولية هذا المؤتمر الذي تستضيفه الأمم المتحدة وتم تسميته “المؤتمر الدولي الرفيع المستوى من أجل التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ حلّ الدولتين”، وبالفعل شرعت الدبلوماسية الفرنسية في الإعداد للمؤتمر وسط توتر شديد للعلاقات الإسرائيلية الفرنسية بلغ ذروته عندما كشف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن بلاده قد تعترف بالدولة الفلسطينية على هامش المؤتمر.

تغير تكتيكي مؤقت أم استراتيجي دائم 

تتحدد العلاقات بين الدول باعتبارات مصالحها وقيمها، وتتغير هذه العلاقات تبعاً لمعطيات عدة لا يتسع المجال لذكرها، من هنا من الصعب افتراض أن تحولاً اوروبياً في العلاقة مع إسرائيل سيطرأ كرد فعل للحرب على غزة، مما يجعل من التوتر الحالي الذي تم استعراض عناصره في البند السابق مجرد حالة ظرفية تكتيكية مؤقتة. فهنالك بنية تحتية صلبة من شبكات الدعم وجماعات الضغط والمصالح التي موقفها هو الانحياز المبدئي لصالح الموقف الإسرائيلي.
كما أن الاستياء الشعبي من إسرائيل لا يمتد للنخبة، ففي استطلاع للرأي جرى في يوليو 2024، أبدى 83% من أعضاء البرلمان الأوروبي تأييدهم لعلاقات بلادهم الخاصة مع إسرائيل. اللافت للاستطلاع الذي أجرته مؤسسة “European Leadership Network” أنه أظهر أن 73% من الأعضاء يعتقدون أن علاقات بلادهم الثنائية مع تل أبيب جيدة، في زيادة قدرها 11% عن العام السابق أي قبل السابع من أكتوبر[4].

لذلك، يجب التفريق بين الموقف من حكومة نتنياهو ومن استمرار الحرب من جهة، وبين الموقف من إسرائيل كحليف وكقيمة لأوروبا. فالغضبة الأوروبية ليست ضد إسرائيل وإنما ضد سلوك الحكومة الحالية.

في المقابل قد يعكس الموقف الأوروبي الحالي تحولاً استراتيجياً ونقطة انعطاف لا رجعة عنها على صعيد إدارة العلاقة مع تل أبيب، فثقافة جيل “Z” من مواليد الألفية وتحرير وسائل التواصل الاجتماعي الخبرَ من سلطة وسائل الإعلام الكبرى أضعفا من احتكار إسرائيل ومؤيدوها للرواية. وبالتالي ما كان مسلّما به أصبح عرضة للتشكيك والتساؤل.

كما أن النسخة “التلمودية” من إسرائيل الحالية هي ليست نفسها إسرائيل “العلمانية” التي سوّقت ذاتها كالديمقراطية الوحيدة في المنطقة. فالنسخة الأولى رافق  تأسيسها تعافي أوروبا من الاحتلال النازي الموسوم بهولوكوست لا يزال للآن يدفع ثمنه الفلسطينيون، فتعاقب الأجيال في أوروبا حرّر الذهنيّة الأوروبية من متلازمة الذنب تجاه الهولوكوست.

كما أن صعود اليمين الشعبوي كطبقة سياسية جديدة يحمل في طياته تغييراً لخارطة القوى السياسية في أوروبا وما يتصل بالموقف من دعم إسرائيل. من جهة ثمة قوى من هذا اليمين لا تزال متأثرة بالموقف الرافض لدعم إسرائيل لاعتبارات دينية وقومية وتاريخية وتصنفهم السياسة الإسرائيلية في خانة معاداة السامية. في المقابل غيرت بعض القوى من مقاربتها واستبدلت الإسلاموفوبيا بمعاداة السامية على وقع تزايد عدد المهاجرين العرب والمسلمين ووقوع حوادث أمنية في عمق أوروبا ذات صلة بهذا التزايد، وهذه القوى تعتبر أن ما يربطها بالصهيونية سياسيا واليهودية دينيا هو قضية مشتركة تتمثل في خطر التطرف الإسلامي[5].

خلاصة القول؛ يحمل توتر علاقة تل أبيب مع الاتحاد الأوروبي أبعاد تكتيكية تتعلق بسلوك الحكومة الحالية، وأبعاد استراتيجية تتعلق بالقيم والتوجهات السياسية (ليس القصد القيم في السياق الليبرالي المثالي وإنما قيم أساسية مثل العلمانية والسيادة واحترام السلطة القضائية).  والأمر ما إذا كان تكتيكياً أم استراتيجياً يتحدد إلى درجة كبيرة بدور العامل الأمريكي في ضبط علاقته من أوروبا، ومن ثم التأثير في الموقف الأوروبي تجاه الاحتلال الاسرائيلي.

وتوصي الورقة بضرورة تكثيف الجهود العربية المشتركة من أجل تسخير الغضبة الأوروبية نحو دعم جهود تحقيق حل الدولتين، والبناء على الموقف الأوروبي تجاه وقف إطلاق النار نحو مستوى آخر سياسي ذي صلة بترتيبات ما بعد الهدنة، فمن حق أكثر من 50 ألف ضحية سقطوا في غزة أن يتم مراكمة السخط الأوروبي والعالمي واستثماره سياسياً وتحريك حل الدولتين. والرهان معقود على مؤتمر دعم حل الدولتين والدور السعودي تحديداً لفحص ما إذا كان يمكن تحويل هذا السخط لدعم سياسي على الأرض وإنهاء الجمود المزمن للسلام في الشرق الأوسط.

كما توصي الورقة بالعمل العربي على توسيع رقعة الرفض للسياسات الإسرائيلية في مناطق أخرى من العالم، وتحديداً في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، فاللحظة الحالية تشكل ظرفاً مواتياً لقيام موقف دولي حقيقي ضاغط نحو دعم الفلسطينين، لاعتبارات كثيرة أبرزها فتور العلاقات الإسرائيلية الأمريكية والسخط العالمي من استمرار الحرب على غزة.


[1] YouGov. (2024, October 7). Eurotrack: Israel, Gaza, and the wider Middle East conflict – one year on. https://yougov.co.uk/international/articles/50898-eurotrack-israel-gaza-and-the-wider-middle-east-conflict-one-year-on

[2] المملكة الإخبارية. (2025، 25 مايو). حكومة غزة: الاحتلال يسيطر على 77% من القطاع. تم الاسترجاع من https://www.almamlakatv.com/news/169822-حكومة-غزة-الاحتلال-يسيطر-على-77-من-القطاع

[3] Certainly! Here is the APA citation for the European Commission’s 2024 report on EU-Israel trade relations:

European Commission. (2024, December 9). EU trade relations with Israel. https://policy.trade.ec.europa.eu/eu-trade-relationships-country-and-region/countries-and-regions/israel_en

[4] European Leadership Network. (2024, July 21). ELNET survey: 83% of European parliamentarians agree with Israel. ELNET.

[5] European Center for Populism Studies. (n.d.). Islamophobic Populism. Retrieved from https://www.populismstudies.org/Vocabulary/islamophobic-populism/