اللإطلاع على الجزء الأول : https://jcss.org/12257/%d8%af%d8%a8%d9%84%d9%88%d9%85%d8%a7%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d8%b4%d8%b1%d8%b7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%91%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d8%af%d9%91%d8%af%d8%a9-%d8%aa%d9%82%d9%8a%d9%8a/
لجزء الثاني
بلال العضايله
المقدّمة
انتهت الجلسة الأولى من المفاوضات التمهيدية بين واشنطن وطهران التي جاءت “بنّاءة” بحسب تصريحات رسمية من كلا الجانبين، لتتبدد، مؤقتا على الأقل، الشكوك والمخاوف المصاحبة لفشل العمل التفاوضي في التوصل إلى حل للملف النووي الإيراني، إذ يقترب الطرفان من التوصل إلى إطار متفق عليه لبدء المفاوضات الفعلية التي قد تبتدئ بالملف النووي ولكنها قد تطال أيضاً النفوذ الإيراني وبرنامجها البالستي.
ومنذ أن أطلق ترامب تهديده التفاوضي مطلع مارس 2025 اتجهت أنظار صناع القرار والمحللين نحو ما ستسفر عنه هذه الجولة الحاسمة من التفاعلات الأمريكية الإيرانية. تنبع حساسية هذه الحوار متعدد الأدوات من اللحظة الشرق أوسطية الانتقالية التي فاقمت من قابلية تفجّر الأزمات والصدامات، وتدرك طهران انعكاس هذه اللحظة على متانة قوتها وموقعها التفاوضي، ولكنها ليس في وارد رفض الانخراط في المفاوضات لأن البديل هو “الجحيم” بحسب توصيفات ترامب.
ورغم أن الطرف الأمريكي شدّد على ضرورة أن تكون الجلسة مباشرة إلا أن الطرف الإيراني تشبّث بموقفه في عقدها مبدئياً بصورة غير مباشرة لما يراه انعدام الثقة في الجانب الأمريكي المنسحب من اتفاق 2015، ويحسب للوسيط العماني نجاحه في تجاوز هذا الإشكال التقني وترتيبه للقاء مجاملات عابر بين الوفدين الإيراني والأمريكي في ردهة مكان انعقاد الجلسة.
تنبع أهمية هذه الجلسة في كونها شهدت تبادل موثّق لموقف كل طرف من المفاوضات، ولم يرشح تسريب لأصل الوثائق المتبادلة حتى وقت نشر هذه الورقة، إلا أن المتتبع لهذا الملف يلاحظ أن ثمة رفع لسقف المطالب على أن يصار لاحقاً لتقديم تنازلات تشكل الحد الأدنى المقبول لكلا الطرفين.
أمريكياً تناور الإشارات الأمريكية الصريحة حول خط أحمر هو منع إيران من حيازة السلاح النووي، وترى أن ضمانة ذلك هي التفكيك الكامل للبرنامج النووي وتجريد إيران من أي قدرات ذات صلة. ولكن كشف المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف لصحيفة “Wall Street Journal” قبيل انطلاق الاجتماع الأمريكي الإيراني في مسقط، أن هذا المطلب لا يعني عدم إمكانية وجود هامش تفاوضي للتوصل إلى تسوية بين البلدين، ما يجعل السيناريوهات المستقبلية مفتوحة على أكثر من احتمال.
إيرانياً؛ لا تزال طهران علنا متمسكة بفتوى دينية تحرّم تطوير السلاح النووي، في تناقض مع سياسة الغموض النووي الإسرائيلية، وفي الوقت عينه تعتبر طهران قدراتها النووية حجر الرحى في مقدراتها الوطنية الاستراتيجية، فتتمسك ببقاء البرنامج وإدارتها له، الأمر الذي يختلف تماماً عن سياسة “نزع السلاح Disarmament” التي تم التطرق لها في الجزء الأول من هذه الورقة.
تشابه هذه السياسة النموذجَ اللييبي الذي أُرغم نظام القذافي فيه على نزع قدراته الكيماوية، والتقطت طهران هذه الإشارة وعبّرت البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة في مارس 2025 عن “موقف تفاوضي” واضح بالقول “إذا كان الهدف من المفاوضات هو معالجة المخاوف بشأن أي تسليح محتمل للبرنامج النووي الإيراني، فقد تكون مثل هذه المناقشات محل دراسة، أما إذا كان الهدف من المحادثات هو “تفكيك البرنامج النووي السلمي الإيراني للادعاء بأن ما فشل أوباما في تحقيقه قد تحقق الآن، فلن تُعقد مثل هذه المفاوضات أبدًا”.
بالإضافة إلى الموقف من القدرات النووية الإيرانية، ثمة عدم وضوح يتّصل بالقضايا المطروحة للنقاش، هل ستشمل فقط النووي أم أيضاً شبكة النفوذ الإقليمي المسلح والبرنامج البالستي. ولا يستبعد أن تبتدأ المفاوضات بمناقشة النووي ثم تنتقل إلى مناقشة ركني التأزيم الإيراني (الجماعات المسلحة والبرنامج البالستي) بطريقة أو بأخرى، ذلك أن أحد أوجه قصور اتفاق 2015 هو عجزه في حسم كامل القضايا الخلافية مما أطاح بجوهر وروح الاتفاق القاضي بإدماج طهران في البنية الإقليمية والدولية، سياسياً واقتصادياً.
وقد سيطر الملف النووي الإيراني على أصداء لقاء ترامب – نتنياهو في البيت الأبيض في 7 أبريل 2025، وهذا اللقاء العاجل الذي لا تزال للآن تتسرب تفاصيله لم يكن معزولاً عن ملفات شرق أوسطية عدة يجري ترتيبها والعمل على إنهائها وسط محاولة كل الأطراف المعنية خلق واقع ينسجم مع مصالحها ورؤيتها، فاللحظة الإقليمية الانتقالية الحالية قد لا تتكرر في العقود القادمة، مما يعني أن ما يُقرر هذه المرحلة سيتحول إلى قواعد جديدة ضمن معادلة أوسع للنفوذ الإقليمي والهيمنة العالمية.
وحتى بعد انعقاد الاجتماع الإيراني الأمريكي الأول، من الصعوبة تحديد ما إذا كان المفاوض الأمريكي يعتبر “النموذج الليبي” هو هدف وسقف التفاوض، ولكن المؤكّد أن مثل هذا النموذج يعبر عن طموح إسرائيلي تروّج له وتضغط نحوه عبر شبكة من المقربين في دوائر صنع القرار الأمريكي. من هنا يمكن الحديث عن تباين حقيقي في المواقف الأمريكية والإسرائيلية إزاء الهدف التفاوضي، فقد تقتنع براغماتية ترامب بعدم جدوى تجريد إيران من كامل برنامجها النووي. وقد يكون للتباين الأمريكي الاسرائيلي تأثير على سيناريوهات المفاوضات كما سيتضح في بند سيناريوهات المفاوضات.
ومع انطلاق المفاوضات، ثمة ترقب لنتائجها وما ستسفر عنه. وحتى يتم بناء سيناريوهات منطقية للمفاوضات، ستقدّر الورقة في هذا البند عناصر الضعف والقوة ذات الصلة بموقف طهران التفاوضي، على أن يتم تحديد أبرز السيناريوهات في البند التالي.
تقدير الموقف التفاوضي
أولاً: عناصر ضعف الموقف التفاوضي
1- تفكك الحلفاء من الدول والميليشيات
تتبع طهران سياسة الدفاع الاستباقي، فمنذ الغزو الأمريكي للعراق التفت العقل المركزي الإيراني إلى هشاشة اعتماد الدولة على سياسة الدفاع عن حدودها، بل يتعين عليها، إن أرادت التمايز وعدم التماهي مع السياسة الغربية، تشكيل شبكة من الجماعات المسلحة الإقليمية تكون حائط دفاع متقدم عن الحدود الإيرانية وبما يخدم فلسفتها الدعائية (Vatanka, 2021).
وبالفعل نجحت إيران في تشكيل “جماعات الطوق” في محيط إسرائيل ليصبح “الهلال الشيعي” واقعاً لا يمكن النظر للشرق الأوسط من دونه، ولكنه تهاوى كأحد تجليات ما بعد السابع من أكتوبر في لبنان وسوريا، أما العراق فتقوم الحكومة التي من المفارقة دعمها الإطار التنسيقي المقرّب من طهران بمعالجة جذرية هادئة لملف ازدواجية السلاح، وتضغط بقوة لحصر السلاح بيد الدولة ومحاصرة مصادر تمويل الفصائل الرافضة للاندماج تحت لواء وزارة الدفاع.
أما ملف الحوثي، فتلك مسألة أخرى أعقد، إذ قامت هذه الجماعة بتحدي مبدأ راسخ في العرف الدولي يتمثل بحرية الملاحة الدولية، مما يعني أن معالجة هذا الملف لا تتصل فقط بالنفوذ الإيراني الإقليمي، بل بجملة أوسع من الاعتبارات الدولية جرى مناقشتها في تقدير موقف سابق أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية بعنوان “العملية الأمريكية “الحاسمة” تجاه الحوثيين: هل حقاً حاسمة؟” (العضايلة، 2025).
من هنا تعبّر الحملة الأمريكية ضد هذه الجماعة عن عزم وحسم إدارة ترامب لبث رسائل تفاوضية لطهران، إذ صرّح ترامب منتصف مارس 2025 دون لبس بأن أي هجمات جديدة من الحوثي ستعتبر صادرة عن إيران. وبالفعل دخل تهديده حيز التنفيذ العملي، إذ يتردد أن طهران طلبت من مستشاري الحرس الثوري في اليمن المغادرة، وذهبت بعض التسريبات أبعد من ذلك بتصنيف ما يجري على أنه “تخلي” إيراني عن جماعة الحوثي. ومن المستبعد أن يكون “التخلي” الكامل هو ما يجري فعلاً لاعتبارات كثيرة منها أن الجماعة يمكن لها أن تكون البديل المكافئ لحزب الله في الاستراتيجية الإيرانية، وهو مرشح ليدير الشكل التالي من الفصائل الإيرانية في المنطقة.
وبغض النظر عما يجري بين جماعة أنصار الله وإيران، فإن المؤكد أن الأخيرة دون شبكة أمان من وكلائها تكون في حالة انكشاف استراتيجي، فذخيرتها الجيوسياسية تستنزف تحت وطأة ضربات إسرائيلية ورفض إقليمي ودولي لمنطق الاعتداء على السيادة.
2-الهشاشة الأمنية والعسكرية
ترتكز المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية في مقاربتها للمفاوضات الدولية على “ميزان القوى” بين الأطراف المتنازعة المتفاوضة، وتسيطر فكرة كلاسيكية على مجمل الفكر الواقعي يمكن إيجازها بأن كل طرف قادر على الذهاب بالمفاوضات إلى الحد الذي تصل إليه فوهة مدافعه.
عملياً، ومنذ أن اطلق ترامب تهديده التفاوضي شرع في ترجمة هذا المبدأ على امتداد الجغرافيا النافذة على إيران، وانتقى البنتاغون بعناية نقطة انطلاق محتملة بعيداً عن حلفائه الشرق أوسطيين وعن قواعده في المنطقة التي ينتشر فيها حتى أكتوبر 2024 قرابة 40 ألف عسكري رسمي، إذ كثّف البنتاغون من تواجده العسكري في جزيرة “دييغو غارسيا” بأسلحة استراتيجية مخصصة للتحليق البعيد والقذف بأسلحة خارقة للتحصينات. وفي مقدمة هذه الركب الأمريكي، ما لا يقل عن 30% من اسطول القاذفة الشبحية “B2s” التي تستطيع التحليق لمسافة 11 ألف كم دون الحاجة للتزود بالوقود (U.S Air Force ) في حين تبعد القاعدة قرابة 3900 كم عن سواحل إيران الجنوبية، أي أنها تستطيع تنفيذ عملياتها دون الحاجة إلى التزود بالوقود (CNN, 2025)
ولا تريد هذه الورقة الإغراق بتفاصيل مقارنات عسكرية لا داعي لها، لأن القدرات العسكرية الإيرانية ولا حتى قدرات دول أوروبية تصح لأن تكون عرضة لمقارنات مع الترسانة الأمريكية الضاربة، لا سيما وأن معظم الأسلحة الإيرانية نتاج تطوير إيراني بسبب العقوبات الصارمة منذ عقود على توريد الأسلحة.
وحاولت طهران تعويض هذه الفجوة خصوصاً في الطائرات عبر تطوير الصواريخ والمسيرات، ولكن ثمّة أوجه قصور تشغيلي فيما يتعلق بأنظمة الاتصالات والسيطرة والتحكم، والأهم من ذلك في الدفاع الجوي. ومما فاقم من ذلك تعمّد الضربة الإسرائيلية ثلاثية الموجات التي شنتها ضد مواقع إيرانية في اكتوبر 2024 تدمير بطاريات S300، وتعطيل قدرات تصنيع الصواريخ البالستية، فبحسب “Axios” تم ضرب 12 خلاط كوكبي يؤدي دور حاسم في انتاج الوقود الصلب للصواريخ بعيدة المدى، وهي وحدات لا يمكن للخبرات الإيرانية إنتاجها بمفردها.
أما أمنياً، فمنذ هجمات البيجر في لبنان دخلت المنظومة الاستخبارية الإيرانية في حالة استنفار ورفعت اليقظة والجهوزية لفحص مكامن الاختراق تجنباً لمفاجآت تكسر المعادلة كما فعلت “البيجر”. واعتادت طهران في سياق جدالها مع خصومها على التعرض لضربات أمنية هجينة، ولكن من المضلل افتراض أن ما قد يتم تنفيذه يشابه الضربات السابقة، إذ أن جعبة المفاجآت ربما لا تزال تحمل الكثير للملف الإيراني. وحتى التقارير الصادرة من مراكز بحثية مقربة من دوائر صنع القرار الأمريكي والإسرائيلي، كمعهد واشنطن، يقول خبراؤها أنه من الصعب التنبؤ بشكل “المفاجأة” المعدّة لخلخلة طهران والموازية للبيجر المخلخل لحزب الله.
ومع ذلك، يضل التقليل من القدرات الإيرانية ضرب من القصور الإدراكي والتجني السياسي، فحتى التقييمات الغربية تفرد مساحة لبيان مكامن قوتها، فمؤشر قوة الجيوش العالمي 2025 “Global Firepower” يضع إيران في المرتبة 16 عالمياً.
3-الإنهاك الاقتصادي
لطالما كان الاقتصاد الإيراني مقيداً في التعامل الحر مع العالم الخارجي، ولكن منذ سياسة “العقوبات القصوى” في إدارة ترامب الأولى أصبحث هذه القيود خانقة لا يمكن التكيف معها مع كل ما يحمله ذلك من تداعيات مجتمعية سياسية لا بل وحتى أمنية، فالدول التي تعاني اقتصاديا تكثر بها الجرائم ويسهل اختراقها، ويصعب عليها توفير سيولة للإنفاق العسكري.
وربما خفّضت عملياً إدارة بايدن من تطبيق سياسة العقوبات القصوى، لكن ما إن ابتدأت إدارة ترامب الثانية حتى أعاد الكرّة بالتشدد في التطبيق الكامل لها، وإغلاق المهارب المحتملة، فأمريكا العقوبات القصوى لن تغض الطرف عن أسطول الظل الإيراني لبيع النفط في السوق السوداء، وقد تتفاهم مع عملاء إيران في هذه السوق – يتردد أن الصين واحدة منهم – للامتثال طوعاً أو كرها لعقوباتها.
وبمقارنة وضع الاقتصاد المجتمعي الحالي في إيران مع مرحلة بدء تطبيق سياسة “العقوبات القصوى” في 2018 يتضح أن المعطيات الحالية تشي إلى تفاقم الأثر التراكمي لهذه السياسة، فمطلع أبريل 2025 انهار سعر صرف الترومان مقابل الدولار إلى مستوى تاريخي عند 104300 تومان، وبالمثل نسب التضخم والبطالة ونقص الخدمات الأساسية تسجل مستويات قياسية هي الأخرى.
4-هشاشة المجال الحيوي الجغرافي والأقليات الحدودية
يحيط بإيران حزام من الدول الهشة أمنيا أو المعادية لها، فشرقاً لها حدود واسعة مع أفغانستان طالبان وباكستان، وفي الشمال الغربي تربطها بأذربيجان حدود متوترة، ففي النزاع الحدودي الأذري الأرمني لم تتردد طهران في إظهار موقف متصادم مع أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية، إذ تتخوف طهران مع تطويق أذري كامل لها يعزلها عن القوقاز. وكثيراً ما صدرت اتهامات أو تقارير تتحدث عن استثمار أجهزة أمنية إسرائيلية في العلاقة مع أذربيجان لتشكيل قاعدة استخبارية متقّدمة لأغراض ذات صلة بالجغرافيا الإيرانية. أما غربا، فالحدود مع العراق يسودها عدم اليقين خصوصاً في الشمال والوسط، حيث تعد مناطق السيطرة الكردية بؤرة محتملة لتدخلات معينة في العمق الإيراني.
إذاً، تعاني طهران أكثر من خاصرة حدودية رخوة، ومما يعقّد من هذا الشأن أن المناطق الحدودية يقطنها أقليات لا تربطها علاقة جيدة مع المركز الفارسي الشيعي، إذ يكشف توزع الهويات الفرعية في إيران عن سيطرة الأقليات على طول امتداد الحدود، فشرقاً يقيم البلوش كامتداد لبلوش افغانستان المجاورة، وفي الشمال الغربي تسود الأقلية الأذرية، وغرباً ثمة بؤرة توتر كردية ليست بعيدة عن امتداداتها في العراق.
ومعظم الحركات الاحتجاجية في إيران ما بعد 1979 انطلقت من هذه الأقليات الحدودية، لاعتبارات سياسية اقتصادية ثقافية تتمحور حول تصوّر هذه الأقليات أنها تتعرّض لتهميش ممنهج من قبل السلطات الرسمية. وفي ظل مسار تفاوضي لا يمكن التنبؤ به، قد يتم توظيف هذه الحدود الجغرافية والأقليات الإثنية لخدمة الأهداف التفاوضية للولايات المتحدة عبر إنهاك إيران في اضطرابات محلية.
5-التجنّح السياسي
تظهر الخارطة السياسية الإيرانية تمايزها إلى ركنين: أصولي واصلاحي، ويتمايزان في الأدوات والإهداف والأسلوب، وهذا التمايز ليس فقط سياسي بل هو مركّب وعلى مستويات أفقية وعمودية عدة، ويرقى ليكون انقسام في المنظور الثقافي والرؤى حيال مختلف القضايا، بما فيها السياسة الخارجية.
فالتّيار الأصولي المقرب من المرجعية الدينية والحرس الثوري يُظهر موقف قوة ويؤمن بعدم جدوى العلاقات مع الغرب، وتحديداً أمريكا الشيطان الأكبر في أدبياتهم. في حين يميل التيار الإصلاحي إلى تبني مواقف براغماتية، علناً وسراً، والسعي نحو إنهاء العقوبات الاقتصادية.
مجتمعياً، يظهر ذلك التباين بين التيارين عبر عدّة أشكال، فالإصلاحي يسعى إلى مزيد من الحريات وإلى “علمنة” جزئية تقلّص “الهيمنة الثقافية” للتيار الأصولي. كما يتجسد هذا التباين في الفجوة الجيلية، فالجيل الصاعد سئم من تبعات السياسات الأصولية الإقليمية ويرغب بالانفتاح على العالم.
هذا التباين – أو التشطي حسب تصنيفات حادة – قد يضعف من التماسك السياسي النخبوي والشعبي حيال التعامل مع المفاوضات وما قد يتمخض عنها من تداعيات. وحتى قبل صدور تهديدات ترامب التفاوضية طفت إلى السطح مظاهر للتجنح السياسي، إذ عزل البرلمان ذي الأغلبية المحافظة الأصولية وزير الاقتصاد عبد الناصر همتي المحسوب على التيار الإصلاحي على خلفية فشله في إدارة الملف الاقتصادي. وبعدها ببضعة أيام، اضطر نائب الرئيس الإيراني للشؤون الإستراتيجية، جواد ظريف، لتقديم استقالته إثر ضغوط نيابية تستند إلى قانون أُقر 2022 يمنع من يتمتع أولاده بجنسية أجنبية من تولي المناصب القيادية. وهذه الضغوط تبعث برسائل تفاوضية كون ظريف هو أحد مهندسي اتفاق 2015 النووي ومن الضاغطين لتبني سياسة خارجية إيرانية تسهم في فك العزلة الاقتصادية.
تجدر الإشارة إلى أن البرلمان الحالي ذي أغلبية محافظة أصولية، في حين يتولى السلطة التنفيذية الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان، الذي انتُخب بعد وفاة الرئيس ابراهيم رئيسي إثر سقوط طائرته بسبب الظروف الجوية بحسب التفسيرات الرسمية التي لم تجب بعد عن كثير من الأسئلة، كحيازة أحد مرافقيه لجهاز البيجر من الفئة التي تُستخدم في اتصالات حزب الله الشبكيّة.
وعليه، يمكن القول أن طهران تدخل المفاوضات في بيئة سياسية مجتمعية اقتصادية غير منسجمة، إذ يعتريها التشتت والتنافر وعدم الالتفاف حول هدف مركزي ورؤية موحدة تجاه هذه المفاوضات.
ثانياً: عناصر قوة الموقف التفاوضي الإيراني
1-سياسة أمريكا أولا
تقتضي هذه السياسة فك الارتباط الأمريكي مع أزمات المنطقة، وتقليص الإنفاق العسكري على ما يسميه ترامب “Endless War” من أجل حشد الطاقات لتحديث البنية التحتية الأمريكية وعدم إنهاك الاقتصاد الأمريكي المنشغل في حرب اقتصادية تكنولوجية مع الصين؛ الأولوية القصوى للأمن القومي الأمريكي في حسابات الهيمنة الدولية والمنافسة الجيوستراتيجية الصفرية.
وهذا التوجه نحو عدم شن حروب جانبية ليس وليد نزعات ترامب وإنما يعبّر عن توجه استراتيجي حفّزه عقدين من الحرب على الإرهاب فقدت بعده واشنطن موقعها كسيد لا منافس له في النظام الدولي، وسط تنامي الحضور الصيني على الساحة الدولية كلاعب استراتيجي يمتلك رؤية متمايزة عن الأمريكية ويريد استقطاب دول نحوها.
وفي هذه البيئة الدولية الانتقالية، قد يخلخل شنّ واشنطن لحرب جانبية ضد طهران من قدرات واشنطن ويشتت أولوياتها نحو أهداف لا تشكل أولوية أمن قومي، وتنحاز عقيدة ترامب نحو تجنب مثل هكذا سيناريو، فلا رغبة في فتح الجبهة الإيرانية، حتى لو جاءت التصريحات والإيحاءات بعكس ذلك.
تجدر الإشارة إلى أن أسس السياسة الخارجية الشعبوية يمكن لها أن توفر مدخلاً لفهم سياسة واشنطن الحالية، وإحدى هذه الأسس هي التصريحات العدائية، والسلوك غير العدواني وغير التعاوني في الوقت نفسه.
بكل الأحوال من الخطورة بمكانة التسليم بعدم رغبة ترامب في شن حروب جديدة، لأن ذلك قد يوفر مدخلاً سيكولوجياً لعدم التعاطي بجدية مع تهديداته الأمر الذي قد يقود إلى تقديرات خاطئة تفضي إلى تفجر الموقف وخروج التقديرات عن السيطرة.
2-موقع إيران في الاستراتيجيتين الروسية والصينية
يمر النظام الدولي بحالة تنافسية حادّة بين قوة أمريكية مهيمنة وأخرى صاعدة متحدية متمثلة تحديداً بالصين وروسيا، وكلا الدولتين ترتبطان بعلاقات وثيقة مع إيران يجري التعبير عنها بالاتفاقيات الاستراتيجية وبالمناورات العسكرية المشتركة في المحيط الهندي.
وتراهن الصين على موقع إيران الجغرافي لتكون جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق “طريق الحرير 2” لوقوعها على الحافة الجنوبية لأوراسيا، وهي بذلك تكون منافساً للممر الاقتصادي الهندي الأوروبي المارّ بالشرق الأوسط الذي تم توقيع مذكرة تفاهم بخصوصه على هامش قمة العشرين 2023. أما روسيا فقد تعمّقت علاقتها مع إيران في العقد الماضي على أرضية التعاون في الملف السوري وتزويد إيران لروسيا بالمسيرات اللازمة للعمليات في أوكرانيا.
ولكن كلا القوتين (الصين وروسيا) لهما حسابات خاصة متمايزة عن طهران مع إدارة ترامب، فالصين تبحث عن مخرج من الحرب التجارية الطاحنة، وروسيا تتفاوض لحل الأزمة الأوكرانية، مما قد يجعل الموقف الإيراني دون إسناد روسي صيني إذا ما تم مقايضة الملف الإيراني بملفات أخرى مع إدارة ترامب، فطاولة المفاوضات الدولية الكبرى تعج حالياً بالملفات، وقد يكون الملف الإيراني جزء من عملية مقايضة “Trade- off Issues” بين اللاعبين الكبار.
بكل الأحوال يُستبعد تخلي الصين وروسيا الكامل عن إيران لإهميتها الاستراتيجية، وهي على الأقل تضل واحدة من ما يمكن تسميته “دول الإلهاء” التي تفضلها كلا الدولتين للتشويش على المنظور الأمريكي وتشتيت أولوياته.
3- التباينات الأمريكية الأوروبية
تمر التفاعلات عبر ضفتي الأطلسي (الاتحاد الأوروبي وأمريكا) بمرحلة إعادة تقييم يسودها شك أوروبي بموثوقية الاعتماد على حليف أمريكي متقلب، وإحساس أمريكي مقابل بعدم تكافئ ما يقدمه كل طرف في هذه العلاقة التي كانت ولا تزال أحد العوامل المحددة للسياسة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية.
ومن شأن إضعاف هذه العلاقة أن يقلل من قدرة واشنطن على فرض إرادتها الدولية، خصوصاً وأن هذا التباين يرقى إلى ملفات حيوية، كالملف الإيراني. ففي الوقت الذي انسحبت فيه واشنطن من اتفاق 2015 أبدت دول الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) الأعضاء في الاتفاق، التزامها بتنفيذه وبذلت جهداً للحفاظ على بقائه القانوني والعملي إلى حدٍ ما.
وعليه، يمكن افتراض أن الاتحاد الأوروبي لن يكون جزء من عملية عسكرية محتملة ضد إيران، ولن يتساوق في الضغط على طهران وفق الرؤية الأمريكية، مما يفقد واشنطن ورقة تفاوض مهمة خصوصاً وأن قنوات التواصل الأوروبية الإيرانية فعالة ولم تنقطع ويمكن التعويل عليها من أجل “إقناع” طهران ببعض التنازلات القاسية.
وفي تطورٍ لافت، وبعد أن كانت شبه مهمّشة عن السجال النووي، تم الإعلان عن أن الحوار الأمريكي الإيراني المقبل سيُعقد في دولة أوربية -الجولة الثانية من المحادثات ستعقد في مسقط، على أن تكون الجولة التالية في إيطاليا- ، مما قد يعطي المفاوضات زخماً إيجابياً نحو التوصل إلى صيغة توافقية مشتركة.
4-عدم وجود حماس إقليمي للعمل العسكري ضد طهران
بخلاف الظروف الإقليمية المرافقة لاتفاق 2015، تمر علاقة طهران مع الدول العربية الرئيسية بمرحلة إعادة ضبط للعلاقات بهدف الخروج من حالة التأزيم والحرب بالوكالة التي أنهكت البنية الإقليمية دون جدوى حقيقية. من هنا جاء الاتفاق السعودي الإيراني لإعادة العلاقات الدبلوماسية برعاية صينية في مارس 2023 مدخلاً لبناء علاقات طبيعية بين إيران والدول العربية.
والمراقب للتصريحات الرسمية التي صدرت من أكثر من عاصمة عربية يلاحظ نوع من الترحيب الحذر بعقد المحادثات الأمريكية الإيرانية، ذلك أن بديل نجاح المفاوضات -أي الاستهدافات العسكرية – على الأغلب سيكون له ارتدادات على البيئة الإقليمية ككل، فالخليج العربي الفاصل بين إيران ودول الخليج العربي يبلغ أقصى عرض له قرابة 370 كم ويصل في أضيق نقطة عند مضيق هرمز إلى 55 كم، وفي البعد العسكري هذه المسافة تقع في نطاق المقذوفات قصيرة المدى.
تجدر الإشارة إلى أن السواحل العربية من الخليج العربي تضم منشآت حيوية ذات طابع مدني، كمحطات تحلية المياه، بالإضافة إلى وجود قواعد عسكرية أمريكية جوية، كقاعدة العيديد في قطر، وبحرية كالأسطول الخامس الذي يتخذ من البحرين مقراً، وهو ما يجعل الدول العربية غير متحمّسة للانخراط في عمل عسكري ضد إيران حتى لا تجد نفسها في مصيدة نيران متبادلة، هذا إذا لم يتفاقم الموقف وتضطر للانخراط العملياتي الفعلي.
ويأتي حشد البنتاغون لقوة ضاربة في قاعدة جزيرة “دييغو غارسيا” ضمن توجه أمريكي لتحييد جوار إيران عن تبعات الانخراط المباشر في أي عمليات عسكرية قد تحدث ضد إيران.
5- التماسك العقائدي
في بند عناصر ضعف الموقف التفاوضي استعرضت هذه الورقة “التجنح السياسي” و”هشاشة المجال الحيوي الجغرافي والأقليات الحدودية” ضمن العوامل المحلية المزعزعة للاستقرار في إيران. ولكن على النقيض من ذلك ثمة تماسك عقائدي للمجتمع السياسي في طهران والمدن الرئيسية، وتدين النخبة بالولاء لنزعة قومية مشبعة بفخر فارسي امبراطوري تجسّد في هذه الحقبة بولاية الفقيه التي مزجت القومي الفارسي بالديني الإثني عشري.
ويرى بعض الخبراء أن التجنح السياسي بين تيار أصولي واصلاحي لا يصل إلى القضايا الوطنية العليا التي تجمع النخبة على اختلافاتها حول راية مشتركة.
السيناريوهات المستقبلية
يندرج السجال الأمريكي الإيراني الحالي تحت مبدأ الدبلوماسية المسنودة بالقوة العسكرية “Diplomacy Backed by Force”، حيث يصعّد كل طرف من موقفه من أجل الحثّ القسري لخفض التصعيد وتقديم تنازلات يؤمل أن تكون مقبولة من قبل الطرف الآخر.
ويشابه هذا المبدأ سياسة حافة الهاوية وما تثيره من فزع الانزلاق إلى أتون مواجهة مدمرة، وهو ما قد يحفّز التفكير العقلاني لتجنب اصطدام ليس في صالح أحد. ويمكن إسقاط ما يجري على “معضلة الجبان – Chicken Dilemma” في العلاقات الدولية عندما يكون وضع طرفين متنازعين يشابه لعبة تنافسية يتسارع فيها السائقين نحو بعضهما، حيث يضبط كل طرف تحركه بناءً على توقع حركة الطرف المقابل مع إبداء موقف قوة في إصراره على عدم الانحراف عن المسار خوفاً.
أمام هكذا حوار إرادات أمريكي إيراني يكون من المضلل افتراض أن نتيجة المفاوضات إما صفقة أو حرب، بل ثمة مروحة من الخيارات المنطقية التي يمكن تنبؤها. وقد حاولت الورقة في جزئيها الأول والحالي بناء إطار تحليلي يمكن منه استنباط السيناريوهات المتوقعة. وهي كالتالي:
1- اتفاق شامل جذري
يفترض هذا السيناريو المرجح التوصل إلى اتفاقية واضحة الصياغة تعالج الملف النووي، على أن تكون التفاهمات الشفوية السرية قد تضمنت مناقشات أوسع حيال مختلف الملفات الشائكة.
تحتفظ هنا إيران ببرنامجها النووي، لكنها ستجرّد كثير من القدرات النووية كالتخصيب، وسيُفرض عليها رقابة شاملة، وبخلاف اتفاق 2015 قد تشترط واشنطن انخراط فرق أمريكية “تقنية” بالمشاركة مع الوكالة الدولية في عملية تتبع ورصد البرنامج النووي.
ومما يعزز وقوع هذا السيناريو مفاوضة واشنطن لطهران من موقع قوة، فتوقيت المفاوضات يفرض على طهران تقديم تنازلات لتجنب تهديد وجوديتها.
2-التوصل إلى اتفاق محدود أو “مؤقت”
قد تكبح بعض المعطيات من العوامل الضاغطة على الموقف الإيراني، مما يقلل من فرص تحقق السيناريو الأول الجذري، وبدلاً من ذلك قد يتم التوصل إلى اتفاق نووي مؤقت على أن يتبع بآخر دائم يشمل كافة القضايا الخلافية، أو قد يتم التوصل إلى اتفاق محدود مشابه لاتفاق 2015 ولكنه غير محدد بمدة.
ومما يعزز هذا السيناريو حرص ترامب على تقديم نفسه كصانع اختراقات سياسية حتى لو لم يكن لهذه الاختراقات أثر فعلي، كما في حالة كوريا الشمالية عندما اجتاز ترامب الحاجز الحدودي برفقة رئيسها كيم جونغ أون في يونيو 2019، لكن لم يتم إحراز أي تقدم سياسي وزحزحة أي من عناصر التأزيم.
كما يعزز من فرص تحقق هذا السيناريو رغبة إيران الجامحة في إنعاش وضعها الاقتصادي دون التفريط بحقها النووي.
3-حملة أمريكية مباشرة
لم تحشد واشنطن قاذفاتها وحاملات طائراتها من أجل عمل خطابي فارغ المضمون، فعدم إحراز نتيجة تفاوضية مقبولة على الأغلب سيقود إلى البديل التالي وهو العمل العسكري أو الجحيم بحسب توصيفات ترامب.
ويتباين حجم العمل العسكري المحتمل، فقد يكون مقتصراً على المنشآت النووية، كنطنز وفوردو، وقد يستهدف القواعد العسكرية الرئيسية، وربما يتفاقم ليشمل حتى المنشآت ذات الطابع المدني، كالبنية التحتية ذات الصلة بإنتاج النفط والموانئ.
لا ترجح هذه الورقة السيناريو العسكري، لاعتبارات كثيرة أهمها عدم رغبة واشنطن في تحمل كلفة حملة قد تزيد من اضطراب المنطقة، ولكن لا ينبغي استبعاد هذا السيناريو، ذلك أن إيران قد لا تقبل السيناريو الليبي، وواشنطن بدورها ستخسر كثيراً من مصداقية تهديداتها على الساحة الدولية إن لم تشن حملة عسكرية في حال فشل العمل التفاوضي.
4-العمل الإسرائيلي المنفرد
تحذّر تقديرات إسرائيلية من أن طهران قد تلجأ إلى تعويض خسارتها الجيوسياسية الإقليمية عبر اجتياز العتبة النووية، وهو الأمر الذي لن تتسامح معه تل أبيب، فقد أعادت صدمة السابع من أكتوبر 2023 للوعي الإسرائيلي مسألة التهديدات الوجودية، وأصبح ما كان يُتداول في مراكز الأبحاث على أنه “وجودي” ليس مجرد تخمينات نظرية بل يمكن في لحظة أن يترجم إلى أرض الواقع.
وتدرك تل أبيب أن اللحظة الشرق أوسطية الحالية قد لا تتكرر مرة أخرى، من هنا تميل إلى الاجتثاث الجذري لكل مصادر التهديد، بما فيها النووي. ونظراً لميل إدارة ترامب للحل التفاوضي، فإن تل أبيب قد تلجأ إلى العمل المنفرد ضد المنشآت النووية الحساسة، تماماً كما فعلت عندما قصفت مفاعل تموز في العراق دون التنسيق العملياتي مع الولايات المتحدة.
يعزز وقوع هذا السيناريو فجوة المواقف بين واشنطن وتل أبيب التي اتضحت بعد لقاء ترامب – نتنياهو في أبريل 2025، وإحساس تل أبيب بفائض قوة يغذي سعيها لحسم القضايا، وإدراكها أن حتى لو تحركت منفردة فإن القاعدة اليمينية المحيطة بترامب لن تتركها تواجه منفردة الرد الإيراني. وعليه قد يتحول عمل إسرائيلي منفرد إلى حملة أمريكية شاملة حتى لو لم تكن واشنطن على علم مسبق بهذا العمل.
5-ضربة أمنية هجينة مع حراك اجتماعي على الارض
يفترض هذا السيناريو وقوع هجمة تشابه في تأثيرها واقعة البيجر ضد أجهزة اتصالات حزب الله، على أن تتبع بتحرك اجتماعي سياسي ناقم، مما يضعف من الموقف الإيراني ويقود إلى سيناريو مشابه للسيناريو الأول (التوصل إلى اتفاق جذري شامل).
أما عن ماهية الهجمة المحتملة، فالخيال مفتوح لعدة احتمالات، إذ وسّعت الحروب الهجينة من نطاق الأدوات المحتمل استخدامها لغايات تدميرية، فمثلاً يمكن لسلاح النبضة الكهرومغناطيسية “Electromagnetic Pulse EMP” أن يشل ويدمر التيار الكهربائي والإلكتروني في الدولة، بحيث لا يعود هذا التيار متدفقاً في الأجهزة المدنية والعسكرية على حد السواء ( Washington State Department of Health , 2003)
6- السلام النووي
يفترض هذا السيناريو الأقل احتمالاً تمكّن طهران من تطوير سلاح نووي كامل، الأمر الذي يعتبر كسر لمبدأ شرق أوسطي راسخ يتمثل في منع الانتشار النووي، وهو ما سيقود إلى معادلات نووية جديدة إذ أن دول عدة عبّرت صراحةً عن استعدادها لحيازة سلاح نووي كرد على خطوة إيرانية مماثلة.
من هنا، وتحت تأثير الخوف من التدمير المؤكد المتبادل “MAD=Mutual Assured Destruction” قد يتم التعايش مع سلاح نووي إيراني، فالردع النووي الذي ساد في الحرب الباردة كان أحد عناصر نزع فتيل المواجهة الشاملة بين قطبين يحوزان ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية عدة أضعاف.
بالطبع مثل هكذا سلام نووي يخفي في طياته مخاطر اندلاع سباق تسلح نووي في بيئة شرق أوسطية غير ديمقراطية ولا تخضع عملية اتخاذ القرار فيها إلى نظام من العقلانية الإدارية والحوكمة الرشيدة، مما يضعف من الرهان على تحقق السلام النووي لما لسيناريو الانتشار النووي ولو كان محدوداً من مخاطر وجودية.
ولكن لا ينبغي تصوير امتلاك إيران للسلاح النووي على أنه “نهاية العالم” في الشرق الأوسط، فالدولتان النوويتان الهند وباكستان يديران صراعاتهما الجذرية بحكمة، لا بل عدد الصدامات الحدودية انخفض بعد تطوير باكستان لسلاح نووي عام 1998، مع ضرورة الإشارة إلى أن العلاقات منذ ذلك التاريخ لم تتحسن بل زاد جمود المواقف وسط استناد كل طرف على سلاح نووي يُصلّب به موقفه.
الخاتمة: مؤتمر طهران 1943 ومفاوضات النووي 2025
لا يمكن دراسة التاريخ السياسي للحرب العالمية الثانية دون التوقف عند مؤتمر طهران الاستراتيجي الذي ضم قادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد السوفياتي، لما ترتب عليه من قرارات وتفاهمات حددت مسار الحرب، وليأتي مؤتمر يالطا 1945 تتويجاً لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وما أقرّه من قواعد لا يزال جوهرها ساري.
وعلى امتداد رقعة الشرق الأوسط الكبير وصولاً إلى أوراسيا، تتشكل هذه المرحلة واحدة من جبهات التفاوض الدولي التي لا تنفصل عن الصراع نحو الهيمنة الدولية، فليس الشرق الأوسط وحده ما يعاين مرحلة انتقالية بل النظام الدولي برمته. وجاءت مهلة الشهرين التي حددها ترامب للتوصل إلى اتفاق من أجل تجنب مفاوضات مطولة تشتت الجهد الأمريكي عن ملفات دولية أخرى يجري التعامل معها.
من هنا ليس أمام طهران فرصة زمنية لممارسة “الصبر الاستراتيجي التفاوضي” ولا حتى “النسج العنكبوتي للأفكار والمجموعات المسلحة”، مما يضع الشرق الأوسط في الأسابيع القادمة أمام تحوّل فرعي جديد يتصل بموقع إيران. وسواء كان هذا التحول حرباً أو اتفاقاً، فإن الأمن القومي العربي أمام متغير جديد يستدعي مقاربة مشتركة للاستجابة له بفاعلية وكفاءة من أجل تقليص أي تداعيات سلبية ناجمة عن الاتفاق المحتمل.
المصادر
- CNN. “US moves B-2 stealth bombers to Indian Ocean island in massive show of force to Houthis, Iran”. 2 April, 2025. Accessed 14 April 2025 https://edition.cnn.com/2025/04/02/middleeast/us-b2-bombers-diego-garcia-intl-hnk-ml/index.html
- Global Firepower, “2025 Iran Military Strength,” accessed April 16, 2025, https://www.globalfirepower.com/country-military-strength-detail.php?country_id=iran.
- U.S. Air Force. “B-2 Spirit.” Air Force Fact Sheets. Accessed April 16, 2025. https://www.af.mil/About-Us/Fact-Sheets/Display/Article/104482/b-2-spirit/.
- Vatanka, Alex. Soleimani Ascendant: The Origins of Iran’s “Forward Defense” Strategy. New America. 2021. https://www.jstor.org/stable/resrep28480.5
- Washington State Department of Health, Electromagnetic Pulse (EMP) Fact Sheet 2003. https://doh.wa.gov/sites/default/files/legacy/Documents/Pubs/320-090_elecpuls_fs.pdf.
- Witkoff Says U.S. Open to Compromise Ahead of Iran Nuclear Talks. The Wall Street Journal, 12 April, 2025. Accessed at: https://www.wsj.com/world/middle-east/steve-witkoff-interview-iran-nuclear-talks-e41e0114.
- العضايلة، بلال. العملية الأمريكية “الحاسمة” تجاه الحوثيين: هل حقاً حاسمة؟. مركز الدراسات الاستراتيجية. 2025. https://jcss.org/11978/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%85%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a7%d8%b3%d9%85%d8%a9-%d8%aa%d8%ac%d8%a7%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%88%d8%ab/