تقدير الموقف

بلال العضايله

الجزء الأول


المقدمه

يعرّف تقييم الموقف التفاوضي بأنه الموقف الابتدائي لدولة ما في المفاوضات، ويُنظر له على أنه نقطة الانطلاق للعملية التفاوضية ويعكس الاهداف الاستراتيجية والقيود السياسية والمصالح والمخاوف لتلك الدولة حيال القضية الخلافية. وتتداخل في الموقف التفاوضي المدركات السيكولوجية والمظالم التاريخية والاعتبارات الايديولوجية، وإن كان هذا الموقف هو نقطة الانطلاق للمفاوضات فإن المسار ككل قد يقود إلى نتيجة تفاوضية تختلف عنه، لأن ذلك الموقف يتطور تبعاً للمساومات والتنازلات وإجراءات بناء الثقة التي تحدث في المفاوضات الناجحة التي تسفر عن توثيق حل القضية النزاعية في اتفاقية أو بروتوكل ملزم (Fisher, Ury and Patton 2011).

من هنا يحمل تقييم الموقف التفاوضي لدولة ما قيمة عملية عليا، ليس لأنه نقطة البداية وإنما لأنه تعبير عن الوضع الاستراتيجي للدولة، فعادةً ما تسخر الدول عناصر قوتها لتعزيز موقعها على طاولات المفاوضات، فمن وجهة نظرية واقعية صلبة؛  يستطيع طرف ما الذهاب على طاولة المفاوضات إلى الحد الذي تصل إليه فوهات مدافعه، وفي ذلك كناية عن ارتباط قوة الدولة بالنتيجة التفاوضية.

بهذا الاتجاه، وفي ظل تشبع وسائل الإعلام بالرسائل الحادة المتبادلة بين طهران وواشنطن، لا بد من تقييم الموقف التفاوضي لإيران، فبعد أن أعلن ترامب في 7 مارس 2025 عن توجيه رسالة للمرشد للإيراني للتفاوض حول المشروع النووي، تعددت المواقف الصادرة من جهات إيرانية حيالها، أبرزها رفض المرشد التجاوب معها لأن تلك الدعوة بحسبه مصممة لـ”خداع يهدف إلى تضليل الرأي العام العالمي” وإظهار طهران بمظهر الرافض للحل السلمي لأن طهران ببساطة لن تقبل التفاوض دون ضمانات وبمطالب أمريكية قاسية.

إلا أن حدة التوتر الذي تثيره التهديدات الأمريكية وما يترافق معها من تضارب في التصريحات والتقييمات دفع طهران إلى الإعلان رسمياً في 24 مارس عبر وزير الخارجية، عباس عراقجي، قبولها إجراء محادثات غير مشروطة وغير مباشرة دون تقديم أي تفصيلات، ويتوقّع أن تتوفر تفاصيل هذه المحادثات إذا وافقت واشنطن على هذا الشكل من المحادثات غير المشروطة. وحتى 11 أبريل 2025 لا تزال – أي قبل يوم من بدء المحادثات في عُمان – لا يزال شكل المحادثات غير واضح بعد.

تنطلق مطالب إدارة ترامب “القصوى” من اعتبار أن سياسة الاسترضاء التي اتبعتها إدارتي اوباما وبايدن لم تؤدي إلى خلق واقع يخدم الأمن الإقليمي والمصالح الأمريكية.  بل على العكس قاد الرفع الواسع للعقوبات عن إيران بعد توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة “JCPOA” عام 2015  – سيُشار لها لاحقا بالاتفاق النووي – إلى وصول جهات تتبع للتّيار المحافظ المتشدّد – كالحرس الثوري – إلى أصول مالية ضخمة لتمويل مشاريع محلية وإقليمية. وأدى غضّ إدارة بايدن الطرف عن نشاط “اسطول الظل” الإيراني لبيع النفط إلى تخفيف حدة أثر “العقوبات القصوى التي أقرتها إدارة ترامب عام 2018، كما أن طهران تنصلت من كثير من التزاماتها النووية وعمدت إلى رفع تخصيب اليورانيوم كماً ونوعا كما سيتم الإشارة إلى ذلك في الجزء الثاني الذي سينشر بعد انطلاق المحادثات.

وتؤمن العقيدة السياسية لترامب بجدوى التهديد بالعواقب على الترغيب بالحوافز، ولربما تؤكد السنوات الأربع من إدارة بايدن على أن الحوافز لم تقد طهران إلى موقف تفاوضي تجنح فيه نحو إزالة الغموض حول نواياها النووية مما يعزز تصميم إدارة ترامب على انتهاج العواقب كأولوية على حساب الحوافز مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر محتملة.

ولعل الشيء بالشي يذكر، فواشنطن بانسحابها من الاتفاق النووي 2018 أطلقت العنان لرد فعل إيراني استراتيجي بلغ ذروته باغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني كجزء من متتالية الرد – الرد على الرد لمجموعة من الحوادث والأنشطة، المعلنة والسرية والهجينة، التي كان يقوم بها كل طرف كرد على فعل صادر من الطرف الآخر، وحافظت هذه المتتالية على وتيرة تصاعدية “spiral escalation” حتى خفتت بالانشغال بانتخابات 2020 الرئاسية وانتخاب بايدن. 

وإن كان ترامب انسحب من الاتفاق النووي في إدارته الأولى في الثلث الأخير من ولايته، إلا أنه الآن يتعامل مع الملف النووي في الأسابيع الأولى لرئاسته ولا زال أمامه أكثر من 3 سنوات ونصف لإنفاذ إرادته التي اختصرها في رسالته إلى المرشد إما الاتفاق أو العمل العسكري الذي لا تحمد عواقبه، واللافت في الرسالة إعطاء طهران مهلة شهرين للتوصل إلى اتفاق، دون أن تحدد التسريبات بداية هذه المهلة؛ هل هي من وقت تسليم الرسالة أو من وقت بدء المفاوضات أو حتى شهرين من أجل بداية مفاوضات الحل النهائي التي لا تقتصر على النووي وإنما تشمل ما تقيّمه الوكالات الأمريكية على أنه أنشطة مزعزعة للأمن الإقليمي، والبرنامج الصاروخي البالستي البديل الاستراتيجي عن غياب قوة جوية ضاربة.

وتفرض هذه المهلة ضغوطاً نفسية قصوى، وهي ليست اعتباطية دون مبرر وإنما تأتي انسجاماً مع مخاوف دولية وإقليمية من سعي طهران  لتعويض ما اعترى ثقلها الاستراتيجي من وهن جراء خسارات إقليمية تلت السابع من أكتوبر، وواشنطن ومعها تل أبيب تتوجس من أن يكون أحد هذه التحركات تجاوز العتبة النووية وانتزاع كتلة من اليورانيوم عالي التخصيب لاستخدامات عسكرية.

ويناقش كتاب Peace Negotiations and Time : Deadline Diplomacy in Territorial Disputes معضلة المفاوضات عندما يكون الوقت عامل ضاغط رئيس – تماماً كما في أزمة الصواريخ الكوبية – وهنا ثمة مخاطر عالية من التصورات الخاطئة الناجمة من الضغط السيكولوجي الذي يعاينه كلا الطرفين، فقد يبادر طرف مدفوعاً بتوجساته الأمنية وحالة الغموض والشك من نوايا الخصم إلى القفز عن طاولة المفاوضات ليعالج إجرائياً وعملياتياً مخاوفه بأسلوب عسكري دون انتظار الحلول التفاوضية (Pinfari, 2017).

وتضع مهلة الشهرين المفاوضات في خانة “دبلوماسية شرطية المدّة المحددة – Deadline Diplomacy” التي يزيد من تعقيدها تشابك الملفات ذات الصلة بها، والحالة الانتقالية للنظامين الدولي والإقليمي، فالدولي تنازع به قوى صاعدة تغييرية ما كان يوماً أحادية أمريكية مطلقة وهذه القوى – الصين ورسيا – على صلة وثيقة بطهران وتراهن عليها ضمن استراتيجية إلهاء لتشتيت جهد الولايات المتحدة في أزمات ومسائل متعددة. أما النظام الإقليمي فهو في طور التشكل لما يمكن تسمية شرق أوسط ما بعد السابع من أكتوبر.

وبعد هذه التوطئة، وفي ضوء الأدبيات النظرية لمفاوضات العلاقات الدولية، وفي ظل الظروف المحلية والخارجية التي تعاينها طهران، يحاول تقدير الموقف التالي (سيُنشر الجزء الثاني منه بعد انطلاق المحادثات) تقييمَ الموقف التفاوضي لإيران والإجابة على السؤال التالي:

ما هي السيناريوهات المتوقعة للمفاوضات الأمريكية الايرانية؟ 

لمحة نظرية: المفاوضات اللانهاية لها 

تفترض هذه الورقة أن المفاوضات تجري ولم تتوقف بين واشنطن وطهران، فمنذ أزمة الرهائن في السفارة ولا يكاد يخلو عام من وجود مفاوضات، سواء كانت معلنة أم سرّية، مباشرة أم عبر طرف ثالث، إلى درجة أنه يمكن وصف ذلك بالمفاوضات اللانهاية لها”Endless Negotiation” على غرار الحروب اللانهاية لها.

آخر وأعقد هذه السلسلة التفاوضية هو ما تم عام 2015 في توقيع خطة “JCPOA”، ويمكن اعتبار الضغط الأمريكي للتفاوض مع طهران امتداداً مباشراً لفشل هذا الاتفاق، أو للدقة امتداداً  لانسحاب واشنطن منه، لأن الاتفاق نظرياً لا يزال قائم باعتراف طهران والدول الأوروبية الأربع به، ,ولم يتعرض قرار مجلس الأمن رقم 2231 المصاحب له لأي إبطال.

كما أن الدول الموقّعة عليه روسيا والصين وحلفاء واشنطن الأوروبيين: المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا لم تتخذ أي إجراء يقوّض الوضع القانوني لاعترافها بالخطة.

وصحيح أن هذه الخطة اعتُبرت إختراقة دبلوماسية منعت سيناريوهات سيئة – كالعمل العسكري ضد المنشآت النووية الإيرانية أو حيازة طهران السلاح النووي – إلا إنه أيضاً يعتريها بعض أوجه القصور، لا بل أبدت بعض الدول في الإقليم، كإسرائيل، سخطها من الاتفاق، فنتياهو رئيس الوزراء في حينه اعتبره خطأ تاريخي وأدار حملة من الضغوط في الداخل الأمريكي لعرقلة جهود إدارة أوباما التفاوضية.

تركّزت معظم الانتقادات إلى كون الاتفاق محدد بإحدى ثلاث من عناصر التأزيم مع إيران، وهي: البرنامج النووي، والبرنامج الصاروخي، والنفوذ الإقليمي، ففي حين عالج اتفاق 2015 مسألة النووي إلا لم يتطرق إلى باقي عناصر التأزيم. ولكن هذا لم يكن الانتقاد الجذري للاتفاق وإنما مدة صلاحية الاتفاق، إذ حُددت فقط بعشر سنوات، ولم يحدد ماذا بعد هذه السنوات العشر – نظرياً ينتهي الاتفاق في يوليو 2025 – وكيف سيتم تجديد الالتزامات والتعهدات ذات الصلة.

بطبيعة الحال حاولت إدارة أوباما تسويق الاتفاق دوليا معتمدةً على أسس السلام الليبرالي المستند على دور الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الأطراف المتنازعة في توفير أرضية مشتركة لحل القضية المتنازعة عليها. وهنا ينبغي الإشارة إلى أن “الاعتماد الاقتصادي المتبادل” ليس اقتصادياً صرفاً فطهران مثلاً لا تمتك من الموارد الاقتصادية ما يجعلها قوة ضاغطة على الدول الغربية، ولكن هي تمتلك قدرات نووية إن سلكت المسار العسكري فإن شكل الشرق الأوسط قد يتغير. 

وانطلاقاً من تبادل المصالح والتنازلات المشتركة – يصنف أوباما ومستشاريه في خانة اليسار الليبرالي – عوّلت واشنطن على أن منح حوافز اقتصادية لطهران قد يجعلها تعتاد على وضع اقتصادي جديد تتمتّع فيه بإيرادات شرعية من بيع النفط والوصول الحر إلى النظام النقدي المصرفي الدولي، وهذا الاعتياد يفرض عليها أن تحافظ على مكاسبها الاقتصادية. وهو ما سيقود إلى مسألتين: الأولى هي حل الإشكالات المتصلة ببرامج التسليح، والثانية تطويع السلوك الإيراني الإقليمي.  

وبعد أن وُضعت افتراضات أوباما لإدماج طهران في النظام الدولي موضع التنفيذ، فإن الاختلالات البنيوية في الاتفاق سرعان ما ظهرت، وأهم هذه الاختلالات افتقار الاتفاق إلى تأييد حلفاء واشنطن الإقليميين، وعدم قناعة التيار الأصولي في إيران بوجوب التطبيق حسِن النوايا للاتفاق، واعتُبر مجرد تجميد مؤقت للبرنامج النووي وضخّ مليارات الدولار في الاقتصاد الإيراني والتي وُجه بعضها بحسب اتهامات متعددة، نحو جماعات مسلّحة في العراق وسوريا ولبنان، وبما يخدم سردية التيار الأصولي ضد التيار الإصلاحي الداعم للانفتاح وتجنب الأزمات.

أمام هذه اللمحة الموجزة لواقع المفاوضات النووية الإيرانية، يبدو أن مهمة الجلوس على طاولة التفاوض ليس بالأمر السهل، وتوفّر أدبيات مرحلة ما قبل المفاوضات “Pre-Negotiation” مدخلاً لفهم التفاعلات ذات الصلة، وهذه المرحلة تعتبر أهم وأكثر مراحل المفاوضات حساسيةً ، صحيح أن كلا الطرفين لا يجلسان على طاولة المفاوضات ولكنهما يتبادلان الرسائل والإشارات، وقد تؤدي الوساطات وتدخل الطرف الثالث إلى بلورة توافق على أجندة تفاوضية يتعين حلها عبر العمل التفاوضي.

ويعد نموذج Tomlin حيال هذه المرحلة مرجعاً تفصيلياً لها ويتكون من خمس مراحل فرعية: الاعتراف بالمشكلة، البحث عن حلول فردية دون جدوى، الالتزام بالتفاوض، الاتفاق على التفاوض، ضبط المعايير (الباراميتر). وللاختصار يمكن اعتبار أن هذه المرحلة التمهيدية تتضمن اقتناع وادراك كلا الطرفين بلاعقلانية الاستمرار في الوضع القائم وبأن الاتفاق ممكن وعوائده تفوق الكلف الناتجة عنه، وهو سيخلق واقعاً أفضل من الراهن. كما في هذه المرحلة يتم جدولة الاجندة التفاوضية وتحديد التفاصيل اللوجستية للمفاوضات (Tomlin, 1989).

أما زارتمان وبيرمان 1982 فقدما تفصيلاً حيال هذه المرحلة التي تتطلب الوصول إلى النضوج “Ripeness” أي تختمر الظروف المناسبة ويتشكل التوقيت المثالي لبدء مفاوضات حاسمة، وهذا التوقيت هو إجمالا يتراوح بين موقعين: الموقع الأول هو ما قبل الانزلاق إلى أتون التصعيد الشامل وما ينجم عنه من دمار وضرر لا يمكن تجنبه “Unpreventable Damage”. والموقع الثاني هو بعد وصول الاشتباك العسكري الكامل إلى ذروته ووقوع جمود الأذى المتبادل “Mutually Hurting Stalemate – MHS” أي يجد كلا الطرفين نفسيهما في مأزق يتبادلان فيه الضرر ولا يملك طرف القدرة على الحسم العسكري.

وفي كلا الموقعين، يتطلب الانتقال إلى حالة النضوج تضافر عدة معطيات لدفع كلا الطرفين نحو الطاولة “Getting into Table” أهمّها السعي العقلاني لتجنب كلف الصراع الباهظة، ولكن ذلك يتطلب الإدراك المتبادل بأن العائد التفاوضي يفوق مكاسب التصعيد الشامل. ومثل ذلك الادراك هو في العمق حالة سيكولوجية تتصل ببنية الردع المتبادل.

وقد يقول قائل أن مثل هكذا وضعية سيكولوجية قد تتوفر في طهران المستنزفة إقليمياً ومحلياً وتعاني “لحظة ضعف” وليس في واشنطن المتخمة بفائض قوتها العسكرية. وهذا الطرح صحيح ولكن حتماً ستتضرر مصالح واشنطن الإقليمية بالتصعيد الشامل المحتمل من حيث أمن حلفائها لا بل وحتى أمن قواعدها المنتشرة على ضفة الخليج العربي المقابل للسواحل الإيرانية – سيتم تسليط الضوء على ذلك في الجزء الثاني من هذه الورقة .

من هنا، وإن توافر وسيط موثوق به لكلا الطرفين، فإن المعايير النظرية لانطلاق المفاوضات متحققة، فالحاجة المشتركة إلى تجنب سيناريوهات قصوى من التصعيد تمثل نقطة بداية محتملة.

ولكن السؤال “التقني” هنا، هل سيتم التفاوض على اتفاقية جديدة على أنقاض اتفاقية العمل المشترك 2015، أم سيتم التفاوض لتعديل الاتفاقية التي تنتهي فترتها هذا العام؟ 

فاكت شيت: تقييم التقدم في البرنامج النووي الإيراني الحالي

يرتبط جواب السؤال التقني السابق بحالة التقدم في البرنامج النووي، صحيح أن ايران متمسّكة بالاتفاق النووي، لكنها تنصلت من بعض التزاماتها، فبعد اغتيال قاسم سليماني في يناير 2020 اتخذت الحكومة الإيرانية قراراً بالتخلّي عن “كل القيود المتعلّقة بعدد أجهزة الطرد المركزي” منهيةً التزاماتها بأي عوائق تشغيلية ذات صلة بتخصيب اليورانيوم كماً ونوعاً.

وتخوفاً من تسلل طهران إلى النادي النووي على غفلة من إنشغال واشنطن بتحديات عالمية وإسرائيل بتحديات شرق أوسطية، تشترك واشنطن ومعها عدة عواصم إقليمية في ضرورة تحييد هذا السيناريو، لأن حيازة طهران لقنبلة نووية ستطلق سباق تسلح نووي في إقليم يعاني من تعدد النزاعات.


بمثل العقوبات القصوى، ثمة تصوّر أمريكي مدعوم إسرائيلياً لاتفاقية قصوى مع طهران تنزع بها قدراتها النووية. واعتبرت دراسة تقنية من 40 صفحة نشرتها منظمة ” Foundation for Defense of Democracies FDD” – مقرها واشنطن – بعد إطلاق ترامب تهديده التفاوضي في مارس 2025 أن صيغة اتفاق 2015 يجب تجاوزها وإحلال نهج تفاوضي جديد يقوم على “نزع السلاح – Disarmament” النووي لإيران، بشكل كامل ودائم وقابل للتحقق منه. وتستدعي مفردة “Disarmament” التوقف عندها ملياً، لأن المنظّمة النافذة في أبحاث الأمن القومي الأمريكي لم تستخدمها جزافاً ولا خطأً، فهي تدرك عدم تجاوز طهران بعد للعتبة النووية، ولكن قصدت من هذه المفردة تحديد عناصر الاتفاقية “المثالية” التي ستجتث القدرات النووية الإيرانية إلى الأبد. 

تشمل هذه العناصر إجراءات تقنية نووية، مثل: حجب الوصول الإيراني إلى الوقود النووي المستخدم في قلب المفاعلات، الإنهاء الدائم والموثوق للبحث والتطوير النووي، الإفصاح الكامل عن الأنشطة النووية الحالية والسابقة، ووصول فرق التفتيش غير المقيّد أو المشروط للمواقع المشبوهة.

كما تتضمن الدراسة تفصيلات ذات طابع تشغيلي عسكري، كإنهاء جهود تطوير وسائل الإيصال لأسلحة الدمار الشامل “Delivery System” كالصواريخ البالستية والمسيرات. وفي هذا الصدد تدعو الدراسة إلى الوقف الشامل لتعاون طهران مع روسيا والصين وكوريا الشمالية في المجال النووي والصاروخي والتسليحي (Foundation for Defense of Democracies FDD, 2025).

وعليه، يمكن تصنيف هذه الدراسة التي صدرت بعد فترة قصيرة جداً من تهديد ترامب التفاوضي – على الأغلب تم العمل عليها قبل إطلاق هذا التهديد – على أنها تمثل الاتفاقية المثالية أو القصوى في منظور العقل الاستراتيجي في تل أبيب والجناح الصقوري المناوئ لإيران في واشنطن، فثمة حساسية مفرطة للتقارير التي تتبّع درجة التقدم في البرنامج النووي.
آخر هذه التقارير الموثوقة صدر كتقرير سري من الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤرخ في 8 فبراير 2025، وأشار إلى ارتفاع احتياطات اليورانيوم المخصب بنسبة 60% من 182.3 كغ في نوفمبر 2024 الثاني إلى  274.8 كغ، أي ارتفاع كمّي بنسبة 51% في 3 شهور، وهذه الكمية لو ارتفع تخصيبها من 60% إلى 90% فإنها تكفي لصناعة 6 قنابل نووية، وحتى نسبة 60% فإنها تفوق بكثير النسبة التي تتطلبها الاستخدامات المدنية، ولم يحدث أن وصلت دول إلى حاجز 60% ولم تخترقه صوب السلاح النووي.

كل ذلك يشير إلى أن ما يفصل طهران عن القنبلة صدور قرار سياسي بذلك وليس عجز في قدراتها، فرغم الاستهدافات المتكررة التي تعرض لها البرنامج (كفيروس ستاكسنت، واغتيال علماء على صلة بالبرنامج، وسرقة الأرشيف النووي وغير ذلك من الهجمات السيبرانية) لا تزال بنيته التحتيّة قادرة بحسب عدة تقييمات.

أحدث هذه التقييمات نشره معهد العلوم والأمن الدولي “Institute for Science and International Security” في مارس 2025، استناداً على آخر تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول مراقبة ورصد الالتزام الإيراني بقرار مجلس الأمن 2231 المصاحب للاتفاق النووي 2015، وفيه تم تحديد وقت الاختراق ” Breakout Time” النووي لرفع نسبة تخصيب اليورانيوم الحالي إلى يورانيوم كافي لصنع سلاح نووي “Weapon – Grade Uranium” بأقل من اسبوع.

تقنياً، وكما جاء سابقاً تحوز الذخيرة النووية الإيرانية حتى فبراير 2025 ما يعادل 274.8 كغ بنسبة تخصيب تبلغ 60%، وعند رفع التخصيب لغايات عسكرية ستتقلص الكمية إلى 174 كغ، ويلزم 25 كغ لتطوير سلاح نووي واحد، مما يعني، ووفق الكمية المرصودة فقط، تستطيع طهران صناعة 7 أسلحة نووية، مع إمكانية توافر قدرة تقنية لرفع وتيرة التخصيب، كماً ونوعاً (Institute for Science and International Security, 2025).

قد تبدو فترة الاختراق النووي الأقل من اسبوع صادمة ومثيرة للقلق، ولكن لا بدّ من مراعاة أن السلاح النووي بحاجة إلى مرحلة أخرى يتم فيها عسكرة اليورانيوم المخصب عبر تطوير وسائل إيصال نووي “Delivery Systems” وهي الصواريخ البالستية من طراز شهاب 3 – لا يزال الطراز غير مجهز تماماً لحمل رأس نووي – بالإضافة إلى ضرورة إجراء تجارب نووية فعلية. وهذه المرحلة التالية للتخصيب العسكري تحتاج سنتين، مما يخفف الضغط النفسي الناجم عن قصر فترة الاختراق (Institute for Science and International Security, 2024). ولا يُتوقع أن فترة السنتين قد تجعل الأطراف المتربّصة بالبرنامج النووي تتسامح مع الوصول لمرحلة التخصيب العسكري، لأن مجرد الوصول إليها يحمل في طياته نوايا كامنة لتوظيفها.


ولا تستبعد هذه الورقة  أن  تكون طهران قادرة على تشكيل فريق تكتيكي من حملة حقائب الظهر النووية “nuclear backpack” مشابه للفريق الذي سرت شائعات أن كوريا الشمالية جهّزته، ومثل هكذا حمَلة “انتحاريين” للحقائب النووية قادرين على التغلب على مسألة تراجع قدرات وسائل الإيصال النووي (Dearden, 2016).

بكل الأحوال ينبغي التعامل مع التقييمات الغربية بحذر، فقد تهدف إلى تضخيم الخطر النووي الإيراني عمداً بهدف توفير ذريعة للهجوم الاستباقي ضد المنشآت الحيوية الإيرانية. لذلك تعي الدبلوماسية الإيرانية ضرورة المناورة بين الاتهامات الغربية المبالغة بها، وضرورة إبداء موقف قوة لردع “الأعداء” والحفاظ على صورتها أمام جمهورها.

ومنذ غزو العراق وتحول البرنامج النووي الإيراني إلى أولوية في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، أضحت هذه المناورة ضرورة حتمية، واتخذ ذلك تبني طهران سياسة تحوّط تستند على التقدم البطي غير المثير لرد فعل عنيف حياله من قبول خصومها وأعدائها. وتشتمل هذه السياسية أيضاً على الوقف المؤقت لبعض العناصر النووية وإبداء شفافية نووية نسبية. وفي الوقت عينه عززت طهران شبكة حماية تقدّمها النووي البطئ بردع لانووي عبر شبكة من الوكلاء المسلحين ومراكمة تطوير وسائل عسكرية كالدرونات والقوارب المفخخة غير المأهولة والصواريخ البالستية (Eisenstadt, 2023).

وتستحضر سياسة التحوّط الإيراني سياسةَ الغموض الإسرائيلي التي ترفض رسمياً الاعتراف أو الانكار بوجود أسلحة نووية، رغم أن الشواهد الموثّقة أكبر من أن تحصى، كتسريب العامل الفني في مفاعل ديمونة، مردخاي فعنونو، تفاصيل البرنامج النووي الإسرائيلي، وتهديد وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، بقصف غزة بالسلاح النووي في أكتوبر 2023.

ملاحظة: سيتم نشر الجزء الثاني من ورقة تقدير الموقف هذه بعد الاجتماع الأمريكي الإيراني المقرر في عمان  12/4/2025.

المصادر

Albright, David, and Andrea Stricker. “Going for the Bomb: Part II, Tasks to Make a Crude Nuclear Weapon.” Institute for Science and International Security. November 7, 2024. https://isis-online.org/isis-reports/detail/going-for-the-bomb-part-ii-tasks-to-make-a-crude-nuclear-weapon/8?

Albright, David, Sarah Burkhard, and Spencer Faragasso. “Analysis of IAEA Iran Verification and Monitoring Report, February 2025.” Institute for Science and International Security. March 2025. https://isis-online.org/isis-reports/detail/analysis-of-iaea-iran-verification-and-monitoring-report-february-2025/8.

Dearden, Lizzie. “North Korea Soldiers ‘Armed with Nuclear Backpacks’ as Tensions Rise over US-South Korean Military Exercises.” The Independent, August 31, 2016. https://www.independent.co.uk/news/world/asia/north-korea-news-latest-soldiers-nuclear-backpacks-kim-jongun-tensions-ussouth-korean-military-exercises-a7217401.html.

Eisenstadt, Michael. “Iran’s Nuclear Hedging Strategy: Shaping the Islamic Republic’s Proliferation Calculus.” Policy Focus. The Washington Institute for Near East Policy, 2022. https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/irans-nuclear-hedging-strategy-shaping-islamic-republics-proliferation-calculus.

Fisher, Roger, William Ury, and Bruce Patton. Getting to Yes: Negotiating Agreement Without Giving In. 3rd ed. New York: Penguin Books, 2011.

Foundation for Defense of Democracies. Iran’s Nuclear Disarmament: Executive Summary. Washington, DC: FDD, March 2025. https://www.fdd.org/wp-content/uploads/2025/03/fdd-iran-nuclear-disarmament-executive-summary-1.pdf.

Pinfari, Marco. Peace Negotiations and Time: Deadline Diplomacy in Territorial Disputes. London: Routledge, 2017.

Tomlin, Brian W. “The Stages of Prenegotiation: The Decision to Negotiate North American Free Trade.” International Journal 44, no. 2 (1989): 254–273. https://doi.org/10.2307/40202598.

Zartman, I. William, and Maureen R. Berman. The Practical Negotiator. New Haven: Yale University Press, 1983.