الدكتورة فاطمة الزبيدي
باحث مشارك/ مركز الدراسات الاستراتيجية
تشكل نتائج المسح الوطني لاستخدام التبغ لدى البالغين في الأردن لعام 2025 قاعدة علمية مهمة لفهم أنماط استهلاك التبغ وتأثيراته على الصحة العامة داخل المملكة. يُعتمد في هذا المسح على أداة شاملة مستمدة من النموذج العالمي (GATS) مع تعديلات تراعي الخصائص الاجتماعية والثقافية للأردن، مما يجعلها مرجعية أساسية لصانعي القرار والباحثين في مجال الصحة العامة. تُظهر النتائج أن استهلاك التبغ أصبح ظاهرة مترسخة في المجتمع، مما يستدعي تحليلًا علميًا عميقًا لتفسير هذه الأنماط والتحديات المترتبة عليها، بالإضافة إلى استنباط توصيات عملية تسهم في تحسين الحالة الصحية للمواطنين.
نفذ الدراسة مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وذلك من خلال جمع بيانات شاملة من عينة تمثيلية تضم 8016 مستجيباً من مختلف محافظات المملكة ومن كافة الجنسيات، وذلك باستخدام منهجية المعاينة العنقودية الطبقية المبنية على أحدث تقديرات السكان لعام 2023. تم تنفيذ عملية جمع البيانات على مدار الفترة الممتدة من 25 أكتوبر إلى 18 ديسمبر 2024 بواسطة فريق ميداني يتكون من 60 باحثاً و30 مشرفاً، بالإضافة إلى فريق متخصص من وزارة الصحة لضمان جودة ودقة البيانات. وقد تمت مراجعة الاستبانة والمنهجية من قبل اللجنة التوجيهية الوطنية، مما يضمن توافقها مع الأهداف المرجوة والاحتياجات المحلية.
تشير النتائج إلى أن نسبة 51.6% من المستجيبين أقروا باستخدامهم لنوع واحد أو أكثر من منتجات التبغ، مما يدل على انتشار واسع لهذه الظاهرة بين فئات المجتمع المختلفة. وقد تم الكشف عن فروق واضحة في نسب التدخين بين الذكور والإناث، إذ بلغت نسبة المدخنين بين الذكور 71.2% مقابل 28.8% للإناث. وتوضح البيانات أن 43% من أفراد المجتمع يمارسون التدخين بشكل يومي، وهو ما يعكس عمق الإدمان على التبغ في البيئة الاجتماعية. كما تكشف الدراسة عن اختلافات في نسب التدخين بين الفئات العمرية والمستويات التعليمية، مما يشير إلى ضرورة دراسة العوامل الاجتماعية والثقافية التي تسهم في هذه الظاهرة.
ومن الناحية النوعية، تم التمييز بين عدة أنواع من منتجات التبغ؛ فقد أظهرت النتائج أن 35.3% من المستجيبين يدخنون السجائر المصنعة، حيث تتوزع النسب بحيث يبلغ معدل التدخين بين الذكور 30.3% وبين الإناث 5.0%. أما بالنسبة لتدخين النرجيلة فقد سجلت نسبة تبلغ 14.3%، مع نسب متقاربة بين الذكور والإناث (6.6% و7.7% على التوالي). وفيما يتعلق بمنتجات التبغ المسخن، فقد بلغت نسب استخدامها 4.1%؛ حيث يُظهر الذكور معدل 3.4% مقابل 0.7% للإناث. كما تبين أن نسبة استخدام السجائر الإلكترونية أو أجهزة التبخير بلغت 7.2%، مما يعكس توجهًا متزايدًا نحو هذه البدائل، مع وجود فروق نسبية بين الذكور (5.7%) والإناث (1.5%). كما تم تقييم الإنفاق الشهري على هذه المنتجات، حيث بلغ متوسط الإنفاق الشهري للفرد المدخن حوالي 35.10 دينار على السجائر الإلكترونية، فيما يظهر إنفاق متوسط على منتجات التبغ المسخن وتعبئتها يقارب 37.5 ديناراً. ( الإنفاق على السجائر المصنعة بلغ حوالي 78 دينار شهريا)..
من المؤشرات المهمة التي تبرز درجة الإدمان على التبغ، أن 33.8% من المستجيبين أشاروا إلى أنهم يبدأون التدخين خلال خمس دقائق من استيقاظهم. ويظهر التفصيل أن نسبة المدخنين الذين يدخنون فور استيقاظهم تصل إلى 36% بين الذكور مقابل 24% بين الإناث، مما يشير إلى درجة عالية من الاعتماد والإدمان على النيكوتين. وفيما يتعلق بمحاولات الإقلاع، فقد أبدى 59% من المدخنين رغبتهم في التوقف عن التدخين خلال الاثني عشر شهراً الماضية، فيما تلقى 72.9% منهم نصائح وتوعية من قبل الأطباء أو مقدمي الرعاية الصحية، مما يؤكد الدور الهام للتدخلات الصحية والتثقيف الطبي في دعم جهود الإقلاع.
علاوة على ذلك، تناول المسح موضوع التدخين السلبي بشكل مفصل، حيث أشار 33% من المستجيبين إلى مشاهدتهم لأشخاص يدخنون داخل مرافق الرعاية الصحية خلال الثلاثين يوماً الماضية، بينما بلغت النسبة 44% في المباني الحكومية و70% في الجامعات، و32% في المدارس، و62% في وسائل النقل العامة. تعكس هذه النتائج انتشاراً واسعاً للتدخين السلبي، مما يؤثر سلبًا على الصحة العامة للمواطنين حتى لأولئك الذين لا يدخنون. كما أظهر المسح أن غالبية المستجيبين (78%) يرون أن جميع أنواع السجائر مضرة بنفس القدر، رغم أن 20% منهم يعتقدون بوجود فروقات طفيفة في الضرر بين الأنواع المختلفة، وهو ما يستدعي مزيداً من البحث لتوضيح هذه الاختلافات وتأثيرها على الصحة.
من ناحية السياسات العامة، تبيّن أن حوالي 53% من المستجيبين يؤيدون زيادة الضرائب على منتجات التبغ كآلية للحد من استخدامها، مع إظهار تفاوت في التأييد بين المدخنين وغير المدخنين؛ إذ يُظهر غير المدخنين نسبة تأييد تصل إلى 75% مقارنة بـ33% فقط من المدخنين. كما يشير التوجه العام إلى ضرورة فرض حظر صارم للتدخين في الأماكن العامة المغلقة، وهو ما يعكس وعيًّا متزايدًا بضرورة حماية الصحة العامة من تأثيرات التدخين السلبي.
يُظهر التحليل العلمي لهذه النتائج أهمية تبني نهج شامل يجمع بين التوعية المستمرة وتطبيق السياسات التشريعية الصارمة، إلى جانب تقديم الدعم الفعال للمدخنين الراغبين في الإقلاع عن التدخين. إن مدى انتشار التدخين والاختلافات الواضحة بين الفئات العمرية والجنسية تبرز الحاجة الماسة لتصميم برامج تدخلية تستند إلى بيانات علمية دقيقة، وتعمل على تقليل انتشار التدخين وتحسين جودة الحياة في المجتمع الأردني.
من الناحية العملية، يعتبر اعتماد آليات رقابية وتكنولوجية حديثة من الأدوات الفعالة في متابعة وتقييم أثر السياسات المتبعة. فالاعتماد على الأنظمة الرقمية لجمع البيانات وتحليلها يتيح لصانعي القرار متابعة النتائج وتعديل الاستراتيجيات بما يتناسب مع التغيرات في السلوكيات الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا السياق، تُعد التوصيات التي خرج بها المسح محوراً أساسياً لتوجيه السياسات المستقبلية، حيث يُمكن للجهات المختصة استخدام هذه النتائج كأساس لتطوير برامج توعوية وتحفيزية تسهم في الحد من استهلاك التبغ وتعزيز الصحة العامة.
في ضوء هذه النتائج، تظهر الحاجة إلى العمل المشترك بين وزارة الصحة والجهات الحكومية الأخرى والمجتمع المدني لتطبيق استراتيجيات فعالة وشاملة، تشمل زيادة الضرائب على منتجات التبغ، وتطبيق قوانين صارمة لمنع التدخين في الأماكن العامة، إلى جانب دعم برامج الإقلاع عن التدخين التي تعتمد على الدعم الطبي والنفسي. كما يجب أن تكون الحملات التوعوية مستمرة ومتنوعة، تستهدف مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، مع التركيز على المخاطر الصحية للتدخين وأهمية بيئة نظيفة خالية من التدخين.
في الختام، يقدم هذا التقرير تحليلاً علمياً مفصلاً لنتائج المسح الوطني لاستخدام التبغ لدى البالغين في الأردن لعام 2025، موضحاً أن التحديات المرتبطة باستخدام التبغ تتطلب استجابة شاملة وتكاملية تجمع بين التوعية، والتشريعات، والدعم الطبي والاجتماعي. إن النتائج التي توصل إليها المسح تُعد مؤشراً واضحاً على الحاجة الملحة لتبني سياسات صحية رائدة تهدف إلى تقليل استهلاك التبغ وتحسين الصحة العامة، مما سيؤدي على المدى البعيد إلى تخفيف العبء الاقتصادي والاجتماعي الناتج عن الأمراض المرتبطة بالتدخين. ومن خلال العمل المشترك وتطبيق الاستراتيجيات القائمة على بيانات علمية دقيقة، يمكن للأردن أن يسير بخطى ثابتة نحو مستقبل أكثر صحة ونظافة بيئية.