أيلول 18, 2013

يقدم الكتاب الجديد للدكتور محمد أبو رمان “الإسلاميون والدين والثورة في سورية” (الصادر عن مؤسسة فريدريش أيبرت) إطاراً تحليلياً لفهم الجماعات الإسلامية المسلحة والفاعلة في الثورة السورية، عبر بناء خارطة للاتجاهات الأيديولوجية والسياسية لها؛ وحجمها وحضورها في المشهد السوري.

 استعرض الباحث نتائج الدراسة وخلاصاتها، في يوم الثلاثاء في فندق لاند مارك، بحضور نخبة كبيرة من المثقفين والسياسيين الأردنيين، وبرعاية مؤسسة فريدريش أيبرت، ومديرتها آنيا وويلر.

وبعد أن استعرض الباحث الاتجاهات الأيديولوجية الرئيسة للجماعات المسلحة في الثورة السورية وضع القاريء أمام أجندات إسلامية سياسية متعددة متباينة في رؤيتها للثورة والدولة والمجتمع، وتختلف في أيديولوجياتها في صيغة النظام السياسي الذي تؤمن به، وفي موقفها من الديمقراطية والتعددية السياسية والدينية وحقوق الأقليات وضمانة الحريات الأساسية حتى في مفهوم الدولة الإسلامية نفسها. 

ويمكن التمييز عموماً هنا بين خمس أجندات رئيسة؛ الأجندة الإخوانية، السلفية، السلفية الجهادية والقاعدة، الأجندة المشيخية- الصوفية، وأخيراً الإسلامية الوسطية العامة.

1- الأجندة الإخوانية: تتمثّل أولويّات الأجندة الإخوانية بالحرص أولاً على إسقاط النظام الحالي، والتخلص منه، بالتوازي مع ذلك في إعادة بناء وترميم مؤسسات الجماعة وحضورها الحركي والسياسي، والعودة إلى المجتمع السوري بعدما فقدت جزءاً كبيراً من ذلك خلال الفترة الماضية، ودعم العمل المسلّح، مع تأسيس بعض المجموعات المرتبطة بالجماعة، وزيادة نفوذها السياسي في الداخل والخارج.

 تحظى الجماعة حالياً بعلاقات وطيدة بكل من تركيا وقطر، وتستفيد من دعم هذه الدول سياسياً ولوجستياً وإعلامياً، إضافة إلى الدعم السياسي والتضامني الذي يأتيها من الإخوان المسلمين في الخارج.

 على صعيد الخطاب السياسي والأيديولوجي، امتازت جماعة الإخوان المسلمين منذ بداية تأسيسها في سورية (1946) بعدم التردد بالانخراط في العمل السياسي والبرلماني والمشاركة في ائتلافات مع قوى علمانية وسياسية أخرى، وشاركت قياداتها في الانتخابات النيابية وفي الحكومات، قبل أن تدخل في صدام مع حزب البعث الاشتراكي منذ العام 1963، ثم المواجهات المسلّحة التي انتهت بأحداث حماة في العام 1982، والقضاء على الجماعة في الداخل.

2-  الأجندة السلفية: إذا نظرنا إلى الأجندات السلفية عموماً من زاوية الحضور والدور والقوة، فسنجد على الصعيد العسكري أنّ الجبهة الإسلامية، التي تتشكّل من أحرار الشام، والفجر، والطليعة المقاتلة، ولواء الحق وغيرها، هي المعبّر الرئيس عن هذه الأجندة المحلية، وتتوافق معها على هذه الأجندة فصائل أخرى، ضمن جبهة التحرير الإسلامية، مثل: كتائب التوحيد والفاروق، والفاروق الإسلامية، وصقور الشام، ولواء الإسلام.

فيما نجد على الصعيد المدني هيئة الشام الإسلامية، والسلفية الحركية وجمعيات مشاركة في العمل الخيري والإغاثي والدعوي والتعليمي، وتجليات السلفية الحركية هي الأكثر حضوراً.

ميدانياً، تتمثّل أجندة هذه الفصائل في التخلّص من النظام الحالي، بوصف ذلك أولوية مطلقة، وتشترك هذه الفصائل مع الفصائل الإسلامية الأخرى في العمل المسلّح، وفي إدارة المناطق المحررّة.

تشارك بعض هذه الفصائل، مثل أحرار الشام والتوحيد وصقور الشام، خلال الثورة المسلّحة، في أعمال مدنية وخدماتية وإدارية متعددة، وتعمل على تجاوز صيغة العمل المسلّح في علاقتها بالمجتمع، نحو شبكة من المؤسسات المختلفة، وإن كانت إلى الآن الطبيعة المسلّحة للاحتجاجات السورية تفرض نفسها على أولويات هذه الحركات ومواقفها.

تتوافق هذه الفصائل جميعاً على مبدأ “تطبيق الشريعة الإسلامية”، خلال الثورة وما بعدها، ويشارك بعضها في تأسيس ودعم الهيئات الشرعية، التي تتولى القضاء وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وفي دعم هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يطرح تساؤلات جوهرية على إيمانها بالحريات الفردية والقوانين الوضعية واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة.

 على الصعيد الأيديولوجي والسياسي، تطرح أغلب هذه الفصائل مفهوم الدولة الإسلامية بوصفها النظام السياسي المنشود، التي تقوم على تحكيم الشريعة الإسلامية أو الالتزام بها بوصفها المصدر الوحيد للتشريع الإسلامي، كما يصّرح بذلك قادة ألوية التوحيد وأحرار الشام والفاروق وصقور الشام.

 3- أجندة القاعدة: تختلف رؤية الفصائل – التي تتبنى خط السلفية الجهادية أو تنتمي للقاعدة- بدرجة كبيرة عن أجندة الفصائل الإسلامية الأخرى، وإن كان الهدف العام يجمع بين كل من الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام وجبهة النصرة؛ إلاّ أنّ هنالك اختلافات جزئية و”تكتيكية” في التعامل مع مرحلة الثورة والعلاقة مع المجتمع والدولة. 

 على صعيد الأولويات تنظر كل من الدولة الإسلامية والجبهة إلى الصراع من الزاوية العقائدية والطائفية، بدرجة أولى، فهو صدام مع نظام طائفي- نُصَيري، ومع الشيعة وإيران وحزب الله، وتتحدث هذه الفصائل لا بوصفها تعبّر عن الشعب السوري وتطلعه إلى الحرية والديمقراطية، بل بوصفها تمثّل المسلمين السنّة، في سورية وخارجها.

تمزج هذه الفصائل ما بين الصراع المحلي والعالمي والإقليمي؛ إذ ترى في المعركة في سورية جزء مكمّل من المعركة في العراق مع إيران، والمعركة مع الولايات المتحدة والغرب، أو معسكر الإسلام ومعسكر الكفر، وفق خطاب هذه الجماعات.

 هذا المنظور تشترك فيه الدولة والنصرة، وإن كانتا تختلفان في التكتيك والأولويات، إذ كانت النصرة (في البدايات) تتجنب (قبل إعلان البغدادي انتمائها للقاعدة في نيسان/أبريل 2013) الإعلان عن وجود القاعدة في سورية، ولم تقم بذلك إلاّ عندما اضطرت بعد إعلان البغدادي، إذ كانت تركّز على الصراع المحلي والمعركة المباشرة مع نظام الأسد، وتتعاون مع الفصائل المسلّحة الأخرى في العمل المسلّح.

 بالضرورة تلتزم كل من الدولة الإسلامية والجبهة بأجندة القاعدة السياسية، التي تنظر إلى الصراع من منظور عالمي، وإقليمي، وترتب أولوياتها وفقاً لهذه الأجندة، لذلك لا يمثّل إسقاط النظام السوري، بالضرورة، هدفاً رئيساً لهذه التيار، فالنظر إلى سورية هو بوصفها ساحة من ساحات الصراع العالمي، وحاضنة جديدة لنمو القاعدة وتيارها وبناء قدراتها وخبراتها، مثلما هي الحال في اليمن والجزائر والعراق وغيرها من دول ومناطق في العالم. 

4- الأجندات المشيخية- الصوفية؛ بالرغم من ضعف دور الجماعات الصوفية في العمل المسلّح وضبابيته، وانقسامها في الموقف من الثورة والاحتجاجات عموماً، إلاّ أنّ ما امتازت به دمشق وحلب هو الحضور المكثّف لشيوخ الدين والمساجد وعلاقتهم الوطيدة بالمجتمع المحلي، وتبنّي نمط من الإسلام أقرب إلى الصوفية بمستويات مختلفة، تبدو في حلب أكثر وضوحاً في خطّها الديني والمجتمعي من دمشق. 

لا توجد أحزاب أو قوى سياسية وعسكرية تقدّم لنا تعريفاً واضحاً لأجندات هذه الجماعات وتصوراتها الأيديولوجية للنظام السياسي المنشود، لكنّ واقعها واهتماماتها توضّح غلبة الجانب المجتمعي على السياسي، وتركيزها على العمل الدعوي والخيري والتربوي، مع اختلاف وتباين التصورات التي تقدّمها للنظام الإسلامي المنشود، ما بين القبيسسيات (اللواتي يصمتن)، وجماعة زيد (تتحدث عن الهوية الإسلامية)، والمؤسسة الدينية الرسمية (تحالف مع النظام السوري والدفاع عن شرعيته). 

6-الإسلاميون الديمقراطيون تشترك جماعات وتيارات إسلامية أخرى مع جماعة الإخوان المسلمين في إعلان القبول بالديمقراطية والتعددية السياسية وتداول السلطة، وتكريس مبدأ المواطنة، مثل التيار الوطني السوري، وبدرجة قريبة من ذلك حركة العدالة والبناء، وإن كانت أقل وضوحاً في أدبياتها من التيار الوطني في هذا الإعلان. 

***

في الفصول الأخيرة من الكتاب يتناول الباحث موضوعة نمد العلاقة بين التدين والمجتمع ومستقبل هذه الجماعات سياسياً.

 على الصعيد الاجتماعي؛ يشير الباحث إلى أنّ انتعاشاً وحضوراً وتوسّعاً بصورة مطردة حدث على صعيد التيارات السلفية في المشهد السوري، لكنّه (كما يشير عبد الرحمن الحاج) أقرب إلى “أداة حرب”، بمعنى أنه يرتبط بشروط الصراع المسلّح الراهن والظروف الاستثنائية للثورة السورية، ومرتبط بطبيعتها إذ انطلقت من الأرياف باتجاه المدن، ويرتبط أيضاً بطبيعة التمويل الأجنبي، الذي اتخذ جزء منه في البداية طابعاً إسلامياً، عبر وسطاء لتيارات إسلامية سلفية في الخليج، ومن كل من قطر وتركيا اللتين تحظيان بعلاقات جيدة مع الإسلاميين، وتتبنيان أجندة تدعم الخط الإسلامي الإخواني والسلفي عموماً.

   فلم تدخل المدينتان السكّانيتان (ذاتا الكثافة السكّانية)، دمشق وحلب، على خطّ الثورة المسلّحة إلاّ في مرحلة متأخرة، وربما أقحمتا عبر الأرياف المحيطة بهما، بينما كان بدء الاحتجاجات وصعودها وانتشارها عبر الأرياف والأطراف والمدن المهمّشة، سياسياً أو اقتصادياً. وإذا كان الاتجاه الصوفي العام ذات الطابع المديني أكثر حضوراً وانتشاراً في هاتين المدينتين.

 في المقابل، فإنّ الاتجاه الصوفي أثبت، خلال العقود الماضية، قدرة كبيرة على التأقلم مع طبيعة المجتمع الشامي المديني، وقابلية لإعادة بناء شبكاته وترميمها في فترة وجيزة وسريعة، كما حدث مع جماعة زيد، في التسعينيات بعد عودة زعيمها أسامة الرفاعي إلى سورية.

 نمط التديّن المفتوح المعتدل الوسطي هو الذي يميّز المدن الشامية تاريخية، وهو الذي ينعكس في الاتجاهات الصوفية والإخوانية ودور علماء الدين والشيوخ، الذين يصرّون على الهوية الإسلامية، لكن بصورتها الفضفاضة العامة، حتى النمط “السلفي الشامي” الإصلاحي، الذي كان يسود منذ بدايات القرن العشرين إلى انبلاج الصراع مع القوميين والبعثيين في الستينيات، فكانت سلفية منفتحة على التيارات الأخرى، وكانت القيادات الدينية لجمعيات مثل التمدّن والغراء، لها حضورها المجتمعي والسياسي، وشاركت في الحياة العامة بفعالية في أوقات معينة.

 أمّا السلفية الجهادية، فهي تزدهر وتقوى في فترات الصراع والحروب، وفي أتون الصراعات الطائفية والدينية والمذهبية، وعندما يتلاشى الأفق السياسي، كما حدث في العراق وسورية، ويبقى هذا الاتجاه يعاني مع المجتمع عندما ينتقل الحديث إلى أجندته الاجتماعية والسياسية والثقافية، كما حصل في العراق (سابقاً) في العام 2007، عندما أسست الدولة الإسلامية (كواجهة للقاعدة)، فدخلت في مواجهة مع القوى السنية المسلّحة الأخرى، ثم مع المجتمع السوري، وتشكّلت الصحوات التي أضعفت حضورها ونفوذها بصورة فاعلة أعوام عدّة ، قبل أن تعود للإزدهار في العام 2012، على وقع تعثر العملية السياسية في العراق من جهة، وامتداد الصراع السني- الشيعي من سورية إلى المنطقة.

 على الصعيد السياسي؛ فيرى الباحث أنّ استمرار الصراع المسلّح لفترة طويلة، مع حفاظ الاحتجاجات على سماتها الراهنة، وفي ضوء الأجندات الإقليمية سيبقي الحضور السلفي فاعلاً ورئيساً، لكن مع مرور الوقت ستجتهد جماعة الإخوان في ترميم مؤسساتها وحضورها المدني والعسكري في المناطق المختلفة، وستستعيد الحركات الصوفية جزءاً من فعاليتها مع تأقلمها مع الظروف الطارئة الجديدة، بخاصة في المدن الرئيسة.

 من المحتمل أن تتعزّز حالة الصدام والصراع بين التيارات الإسلامية على وقع الخلافات الأيديولوجية والفكرية، تحديداً فيما يتعلّق بإدارة المناطق المحرّرة، وهو الصراع الذي بدأت إرهاصاته وملامحه بين الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام من جهة وقوى أخرى من جهة ثانية، وفي حال تطوّرت قدرات القاعدة بدرجة أكبر وبدأت تهدد المناطق الإقليمية المجاورة، فهذا سيعزّز من دور الأجندات الدولية في مواجهتها عبر دعم الفصائل السنية الأخرى.

 أمّا في حال سقوط النظام، أو إذا حدثت صفقة دولية أنهت عهد الرئيس بشار الأسد، وأدت إلى الدخول في مرحلة انتقالية، برعاية دولية، كما هي حال اليمن، وبدأ النظام السياسي في التشكّل ودخلت الأطراف المختلفة في اللعبة السياسية وعملية بناء الدستور وإعادة هيكلة المؤسسات العامة المختلفة، فستتحول الاتجاهات الحالية إلى أحزاب وقوى سياسية إسلامية متنوعة، ما بين الإخوان المسلمين والاتجاهات السلفية والإسلامية الديمقراطية، وسنجد خارطة منوّعة من هذه الأجندات المتنافسة، تتباين فيما بينها (كما لاحظنا سابقاً) في أجنداتها السياسية وبرامجها الحزبية في رؤيتها للديمقراطية والدولة والمجتمع والعلاقة مع الغرب، والموقف من الحريات الفردية والعامة والأقليات والمرأة، وسندخل في سجالات إسلامية- إسلامية، وإسلامية- علمانية، كما يحصل في دول الربيع الديمقراطي العربي اليوم، وستعتمد “المرحلة الانتقالية” على قدرات القوى السياسية المختلفة في إدارة صراعاتها واختلافاتها الداخلية