حزيران 01, 2012

تقـــــديم

مع بداية التفكير في إجراء مسح على عينة من السكان في الأردن، حول العلاقة بين المواطنين حسب أصولهم، ولا سيما الأردنية والفلسطينية منها، برزت مجموعة من المحاذير تمثلت في أن كل من يحمل الجنسية الأردنية هو أردني يتمتع بحقوق المواطنة، ويتحمل مسؤولياتها وفق ما نص عليه الدستور. فلماذا، إذن، هذا الفصل بين أردني وفلسطيني في هذا الإطار الوطني الواحد، وهل ستؤدي بنا مثل هذه الدراسة إلى حالة من الاستقطاب¿ أو إلى تعميق هذه الحالة إذا كانت موجودة¿ وما الحكمة من كشف سلبيات هذه العلاقة، إن وجدت، بينما لا يتحدث أحد عنها علناَ¿ ثم ألا توجد مثل هذه السلبيات في كثير من المجتمعات¿ وما الذي يمكن أن يختلف فيه الأردن عن غيره في هذه المسألة.

إن قرار المضي في هذه الدراسة نابع ابتداء من الحرص على المصلحة الوطنية. وهي مصلحة تقتضي مواجهة المشكلات، والكشف عنها، وتشخيصها، ثم اقتراح الحلول لها. وقد أجريت الدراسة على ثلاث عينات: أولاها عامة شملت قطاعات المجتمع وشرائحه كافة، وثانيتها شملت سكان المخيمات تحديداَ، وثالثتها اقتصرت على النخبة، أو من سمتهم الدراسة “قادة الرأي”. وقد أنجز المسح في شهر شباط من عام 1995، وتم استخلاص نتائجه بعد شهر من ذلك.

ثم وزعت الدراسة على نخبة من ذوي الرأي والخبرة والتجربة الطويلة، ممن يتمتعون باستقلالية التفكير واتزانه ويحرصون على الصالح العام، وكان هناك بعدئذ مائدة مستديرة التأم شملهم حولها في حوار ممتد على مدى ثلاث جلسات، عرضوا خلالها وجهات نظرهم وقناعاتهم حول مختلف جوانب العلاقة الأردنية الفلسطينية، بصراحة تامة، وبعيداَ عن الحساسيات والمجاملات آخذين جميعا باعتبارهم النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة.

وقد اعتمدت هذه الورقة، في كثير مما ورد فيها، على ما دار في اجتماعات المائدة المستديرة، تلك، وهي وإن لم تكن تعكس وجهة نظر أحد من المشاركين، إلا أنها جاءت، بوجه عام، محصلة لمجمل الآراء والتصورات التي برزت خلال النقاش الذي اتسم بالجدية وعكس كثيراَ من مسائل الخلاف.

من هنا يمكن القول بأن الغرض من هذه الورقة هو الكشف عن ماهية العلاقة الأردنية الفلسطينية، بما تتضمنه من إيجابيات وسلبيات… ومحاولة إرجاع ذلك كله إلى أسبابه التاريخية والموضوعية… ثم اقتراح الحلول الكفيلة بانتصار المجتمع الأردني على الشوائب التي تعيق تقدمه وازدهاره.

ونأمل أن تكون هذه الورقة فاتحة لنقاش إيجابي مثمر يشكل جزءاَ من عمل واسع يتجاوز السلبيات، ويؤكد على بناء العلاقة الأردنية الفلسطينية على أسس سليمة، تهيئ للأردن أن يأخذ دوره ومكانه المناسبين بين دول المنطقة، وأن يتصدى للتحديات الخارجية، وهو أكثر ما يكون وثوقاَ بتماسك جبهته الداخلية، التي ستكون، حينئذ، مصدر قوة له، وشرطاَ موضوعياَ لاستقراره، ومنعته، ونمائه…

العلاقة الأردنية الفلسطينية

مدخـل

انسجاماَ مع السياسة التي اختطها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وذلك بتناول أبرز المعضلات التي تواجه مجتمعنا الأردني، فإننا نتقدم اليوم نحو مسألة تعد من القضايا ذات الحساسية البالغة التي يندر أن يتم بحثها علانية، وهي العلاقة الأردنية الفلسطينية من منظور داخلي.

وقد قام المركز بتنظيم حوار “مائدة مستديرة” حول هذا الموضوع، سبقه مسح ميداني لدراسة مختلف جوانب العلاقة بين المواطنين من أصل أردني وفلسطيني في البلد، بهدف توفير قاعدة معلوماتية عن تلك العلاقة. فدرست المخاوف المتبادلة، وعوائق الانصهار، ودرجة الاستقطاب، وكيف ينظر كل طرف إلى الآخر، إضافة إلى محاولة التعرف على شكل العلاقة المستقبلية بين الأردن وفلسطين، باعتبار أن الضفة الغربية وقطاع غزة يشكلان بعداَ ديمغرافياَ للتركيبة السكانية في الأردن.

لقد تغيرت التركيبة السكانية للأردن بصورة كبيرة بعد حربي 1948و1967º بسبب الهجرة والوحدة بين الضفتين والنزوح الفلسطيني، الأمر الذي أنعكس على البنية الديموغرافية والاجتماعية، وأوجد ما عرف فيما بعد بالخصوصية الاجتماعية والسياسية للبلاد. وقد كان لمجمل التطورات السياسية التي مرت بها المنطقة تأثير سلبي على هذه العلاقة.

وبدلاَ من إخضاع هذه البنية الاجتماعية الخاصة للبحث والدراسة والتحليل العلمي بعيداَ عن المرجعيات والمنطلقات المحدودة، فقد جرت مناقشة هذا الموضوع -ونظراَ لحساسيته البالغة- بروح التوفيق والتسويات المؤقتة، التي كان هدفها الأساسي كسب الرضى أو عدم إغضاب أي من الأطراف الفاعلة سياسياَ.

وإذا ما انطلقنا من فرضية أنه تتعايش الآن في الأردن جماعتان سكانيتان رئيسيتان من منبتين متباينين، فإنه يتبين لنا أن العلاقة بينهما قد حكمها نمطان من التعاطي السياسي:

الأول، ويندرج في سياق الحوارات غير العلنية في البيوت والصالونات السياسية والعائلية، حيث يقوم معظمها على ترديد انطباعات، وهواجس، ومخاوف، وربما أوهام كل طرف إزاء الآخر، ويمكننا الإشارة هنا إلى أن هذه الحوارات كانت تتأثر إلى حد كبير أيضا بالأبعاد والمصالح الخارجية.

 الثاني، ويتصل بالشكل العلني للتعاطي مع موضوع العلاقة الأردنية الفلسطينية، التي غلب عليها التوفيق والمجاملة، دون محاولة الخوض بجدية، وعلمية، وجرأة في تحليل هذه العلاقة وجوانب الخلل فيها. وبالتالي اقتراح حلول عملية من شأنها تحصين البيت الداخلي والتقدم بصيغته الاجتماعية، وهو الأمر الذي كان سينقل البلد من حالة رد الفعل السلبية إلى حالة الفاعلية والمبادرة الإيجابية.

البدايات:

تشكلت الدولة الأردنية في بقعة جغرافية تضاءلت فيها الشروط الذاتية الضرورية التي تساعد على تشكل الدولة بمعزل عن العوامل الخارجية. وبذلك وضعت الأسس الموضوعية لتشكيل علاقات تكامل عمودية جغرافياَ بعد قيام الدولة على حساب علاقات التكامل والتبادل الأفقية التي كانت قائمة منذ عهود قديمةº فقد كانت منطقة حوران تشكل إقليماَ مرتبطاَ بعلاقات تبادلية مع الأجزاء القريبة من فلسطين، أكثر من علاقاتها مع منطقة البلقاء، وتكاد تكون علاقة هذه المنطقة مع الكرك معدومة. وينطبق الأمر نفسه على وجود علاقة تبادلية اجتماعية وتجارية بين البلقاء والقدس، وبين نابلس والسلط، وبين الكرك والخليل وغزة. وتعايشت على هذه الأرض فئات سكانية بدوية، وقروية زراعية، ومدنية صغيرة، تتمتع بمكونات ثقافية وعصبيات مختلفة تحددها بالأساس أنماط الحياة المختلفة لهذه الفئات السكانية. وأدى إقحام المنطقة في الصراعات بين القوى الدولية الخارجية في بدايات هذا القرن إلى تقسيم الأرض الواحدة، إذ بدأ الاستعمار والصهيونية بوضع الأسس الموضوعية لبروز الهويات “الوطنية” المختلفة.

الدولة الأردنية:

تأسست الدولة الأردنية الحديثة عبر سياق تاريخي فيه من الخصائص العامة ما يشبه -إلى حد بعيد- الأنماط السائدة في العالم الثالث بشكل عام. وكان لخصوصية الدولة الأردنية الحديثة الدور الأساسي في إعطائها سماتها السياسية، وفي تحديد العلاقة بين الفئات السكانية المختلفة إلى حد كبير، وبالتالي مسار التغيير الاجتماعي في البلاد.

لقد تأسست الدولة الأردنية قبل أن يتبلور مفهوم الشعب الواحد ضمن إطارها، وقبل أن تتشكل فيها أية مؤسسة من مؤسسات الدولة الحديثة. والى جانب هذا العامل المهم، فإنه علينا أن نأخذ بالاعتبار أن طبيعة تشكل الدولة، وشح الموارد الاقتصادية ومحدوديتها، واعتمادها على المساعدات المالية الخارجية، جعل منها دولة مركزية وتدخلية.

وتشكل هذه الحقائق بالإضافة للدور الحاسم للعامل الخارجي في تكوين الهويات “الوطنية” المختلفة في المنطقة، وشح الموارد، وضيق القاعدة الاقتصاديـة للدولــة، وقلة فرص العمل المتـاحة في القطاعــات المختلفة، كلها عوامل تمثل نقطة الانطلاق والقاعدة المعرفية الأولية التي تساعد على تحديد جذور الخلافات الداخلية وفهم ديناميكية المجتمع الأردني وحركته.

فالشعارات التي نادت “بأردنة الوظائف” وأطلقتها النخب الأردنية بين الحين والآخر في العقود الأولى من عمر الدولة وجهت في البداية ضد الاستقلاليين “السوريين” ومن ثم ضد الموظفين المعارين من حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين. ويعكس هذا التوجه مواقف سياسية، واجتماعية، واقتصادية تشكل في جانب منها توجهات مصلحية لهذه النخب، وشكلت هذه المواقف التعبير السياسي الأولي للهوية الأردنية.

لقد وضعت المواقف السياسية للدولة الأردنية منذ بداياتها، التي كانت تقف أحياناَ في موقف منافس للقيادة الفلسطينية آنذاك، النخب البيروقراطية الأردنية في موقع سياسي مضاد للشارع الفلسطيني، وفيما بعد متصادم مع فصائل المقاومة الفلسطينية المختلفة، وقد انعكس ذلك بالضرورة، ومازال، على طبيعة العلاقة بين الأردنيين والفلسطينيين، وقد شكلت هذه القوى بمجموعها عوامل خارجية ضاغطة، تفاعلت مع العوامل الداخلية الأخرى، وأدُت إلى تضييق دائرة الحريات، وتعطيل الحياة البرلمانية بين الفينة والأخرى، والزج بالنشطاء السياسيين والمثقفين في السجون، مما كان له تأثيرات تراكمية سلبية على العلاقة الأردنية الفلسطينية.

الوحدة والعلاقة الأردنية الفلسطينية:

كان من نتائج حرب عام 1948 ضياع الجزء الأكبر من فلسطين، وتشريد أهلها، وقد ارتبط بهذا الحدث المهم تغييرات جوهرية في البنية الديموغرافية والجغرافية للدولة الأردنية، بما في ذلك تركيبة المدينة والقرية وأنماط المعيشة فيهماº فجغرافياَ توسعت رقعة المملكة الأردنية الهاشمية غرباَ لتضم الضفة الغربية بما فيها القدس.

وعلى الصعيد الديمغرافي، فقد اختلفت التركيبة السكانية للدولة الأردنية، وشكل هذا بدوره عاملاَ أساسياَ في تحريك وتوجيه السياسة الأردنية داخلياَ وخارجياَº فعلى المستوى السياسي عمدت الدولة الأردنية في البداية إلى حشد التأييد للوحدة في الوسط الفلسطيني، إذ تم تعديل الدستور، وأصبحت السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) مسؤولة -بشكل أكبر- أمام مجلس الأمة مما أدُى إلى توسيع صلاحياته التشريعية.

أما على صعيد العمل السياسي الشعبي المنظم، فقد كانت القضية الفلسطينية محركه الأساسي. فلم يقبل الفلسطينيون آنذاك أقل من الإزالة السريعة لأشكال الظلم كافة التي لحقت بهم، بما في ذلك العودة إلى ديارهم. ولما كان قد تشكل انطباع لدى الكثير من الفلسطينيين بأن النظام الأردني مسؤول -بصورة أو بأخرى- عن هزيمة 1948، فقد ساد جو من عدم الثقة والشك بنظام الحكم. وشكل ذلك الأرضية التي قامت عليها التحالفات بين غالبية الوسط الفلسطيني وتلك التيارات السياسية والأيديولوجية التي اتخذت من الحكم موقفاَ معارضاَ. ولم تؤد الوحدة التي أعلنت عام 1950، والتوسع الجغرافي للدولة الأردنية، إلى تغيير اسم الدولة بما ينسجم والتطورات الجديدة، بل على العكس من ذلك، تم العمل على “أردنة” جميع المواطنين في دولة اختلف تكوينها الجغرافي والديمغرافي. وفي سياق محاولتها تكريس الوحدة فقد تبنت الدولة الأردنية زعامات فلسطينية محلية ارتبطت مصالحها بها، وحلت القيادة الأردنية مكان القيادة الفلسطينية التي مثلت الفلسطينيين قبل قيام الوحدة. وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لهذا التطور، إلا أن اسم الدولة لم يشكل قضية أساسية في ذلك الوقت. ففي البداية كان الوسط الفلسطيني متخوفاَ من أن تقوم إسرائيل بابتلاع الضفة الغربية، اذا ما تخلى الأردن عنها وتركها في حالة فراغ، بالإضافة إلى الدور الذي يمكن أن يؤديه الجيش العربي الأردني في الدفاع عن الأرض، والعلاقات المتميزة للأردن دولياَ، كل ذلك شكل عوامل مساعدة للقبول بمبدأ الوحدة لدى غالبية الفلسطينيين. ويظهر ذلك جلياَ في اندماج النخب الفلسطينية مع الأردنية في الحركة الحزبية والنقابية وفي العلاقات الاجتماعية، وفي الحياة البرلمانية للبلاد… الخ. كما كان ذلك متوافقاَ مع سعي التنظيمات السياسية في أن تكون ذات بعد وطني من خلال مد نشاطها ليشمل ضفتي المملكة.

وفي الوسط الأردني فقد لاقت الوحدة قبولاَ عاماَ، ولم تثر في حينه أية مخاوف من هيمنة فلسطينية اقتصادية وسكانية كالتي نشاهدها اليوم.

ويمكن القول إن العلاقة الأردنية الفلسطينية تميزت بالوحدة الاجتماعية رغم التباينات الثقافية التي كانت تمليها أنماط الحياة المختلفة، ولم يكن القطاعان الكبيران من السكان في دولة الوحدة في مواجهة بعضهما البعض، بل كان الانصهار بينهما عالياَ. وكانت الأفكار السياسية والاجتماعية الموحدة تؤطر المواطنين في الضفتين، فيما كانت علاقات المعارضة والتحالف السياسي تبنى في الغالب على أسس أيديولوجية، حيث لم تلعب الأسس الجهوية، أو العشائرية، أو الإقليمية الدور الذي تلعبه الآن.

ولقد ظهر جلياَ مدى عمق العلاقة في الفترة الأولى من حكم الملك حسين 1953-1957 التي اتسمت بالاتجاه نحو الانفتاح السياسي الداخلي، فظهرت العلاقة الأردنية الفلسطينية قوية ومتينة. وكانت الأحزاب في الضفتين تخوض معاركها الانتخابية بقوائم موحدة. وكانت النخبة السياسية بغض النظر عن جذورها الجهوية تقوم بجولات في جميع المناطق تأييداَ لمبدأ سياسي دون آخر، كما أن هذه الفترة من العلانية قد سمحت للقطاعات الشعبية التعبير عن توجهاتها السياسية في قضايا محلية، وعربية، وإقليمية، ودولية. وقد تجلى الانصهار الاجتماعي والسياسي في ظاهرة التقدم بالترشيح والفوز بالمقاعد النيابية للكركي في القدس، أو الخليلي أو النابلسي في عمان واربد.

لقد تولد الانطباع بالتمييز مع تزايد التوتر بين الحكم والشارع السياسي، ابتداءَ بظهور هواجس من نمط أن هناك مخططاَ مركزيا في عمان يقوم على تخفيف الإنفاق العام في الضفة الغربية، وعلى توجيه الاستثمارات نحو الضفة الشرقية، ورغم كل ذلك ظل العمل السياسي بمجمله “وطنياَ” وغير جهوي. وكان ينظر إلى العلاقة الأردنية الفلسطينية منذ الخمسينات وحتى عام 1967 كعلاقة أردنية داخلية، ولم ينظر إليها كعلاقة بين كيانين أو حتى بين هويتين، على الرغم من تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964ومطالبتها بتمثيل جميع الفلسطينيين بما في ذلك فلسطينيي الأردن.

وشكلت حرب 1967 منعطفاَ تاريخياَ كان له آثاره الجذرية على صعيد العلاقة الأردنية الفلسطينيةº فلأول مرة منذ الوحدة ظهر ما يسمى بالعلاقة الأردنية الفلسطينية الرسمية، وبرز التنافس على تمثيل فلسطينيي الأردن بين فصائل المقاومة الفلسطينية -بأشكالها الأولية المختلفة- وبين الحكم في الأردن، وانعكست هذه العلاقة على المستوى الشعبي، فبرزت الهوية الفلسطينية في الوسط الذي كانت تسعى الحكومة جاهدة “لأردنته”، وحدث الشرخ الذي أسس لبدايات العمل السياسي المنظم على أساس إقليمي.

وفي محاولة منها لإعادة ترتيب “البيت الأردني وحماية الذات” إثر الصدام المسلح بينها وبين فصائل المقاومة، وانضمام جزء من العاملين في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية من الفلسطينيين إلى تلك الفصائل، قامت الدولة الأردنية بتخفيف عدد الفلسطينيين في الجيش والأجهزة الأمنية، وانسحب ذلك أيضا على أجهزة الدولة العليا. وإذا ما أخذنا بالاعتبار انفتاح سوق العمل الخليجي، والارتفاع النسبي للرواتب هناك، فإن أعداداَ كبيرة من الفلسطينيين آثرت الهجرة للعمل في الأسواق الخليجية. فيما واصل غالبية الأردنيين انخراطهم في المؤسسة العسكرية والأجهزة البيروقراطية المدنية، مما كان له أكبر الأثر في اختلال توزيع الدخل الوطني لاحقاَ.

تشخيص الحالة واقتراحات للإصلاح:

هناك إجماع في الأوساط السياسية والاجتماعية على أن الوضع الراهن للعلاقة بين الأردنيين والفلسطينيين في الأردن بحاجة إلى معالجة. ويمكن اقتراح الانطلاق نحو تصحيح هذه العلاقة من خلال دراسة مركز الدراسات الاستراتيجية الميدانية حول العلاقة الأردنية الفلسطينية في شباط/فبراير 1995، التي لمست -إلى حد كبير- درجة الانصهار ودرجة الاستقطاب في الأردن، وخرجت الدراسة باستخلاص جوهري يقوم على أن هناك مجموعة من المعوقات التي تشكل قاعدة الاستقطاب وتعيق الانصهار لدى الفئتين. وإذا ما طبقت مجموعة من السياسات، فإن درجة الانصهار سترتفع كثيراَ، وتصبح إزالة المعوقات نهائياَ مسألة وقت فقط.

فالمعوقات التي يطرحها المواطنون من أصل أردني تتمثل في:-

  1. تركز قطاع الأعمال الخاصة بين المواطنين من أصل فلسطيني.
  2. تخوف المواطنين من أصل أردني من الأعداد المتزايدة للمواطنين من أصل فلسطيني.
  3. ازدواجية الولاء لدى المواطنين من أصل فلسطيني.
  4. عدم تقدير المواطنين من أصل فلسطيني للفوائد التي حصلوا عليها نتيجة انتمائهم للأردن.

أما النقاط المتعلقة بالمواطنين من أصل فلسطيني فهي:-

  1. تركز التعيين في القطاع العام لصالح المواطنين من أصل أردني.
  2. عدم تمثيل المواطنين من أصل فلسطيني في الحكومة والبرلمان بما يتناسب وأعدادهم داخل المملكة.
  3. حصر الوظائف الحساسة بين المواطنين من أصل أردني.
  4. محاباة الجهاز الحكومي للمواطنين من أصل أردني في مختلف المعاملات.

وفي محاولة لدراسة هذا الوضع الذي يسود في البلد، هناك من يَلقي باللائمة على سياسات الدولة الأردنية التاريخية التي أدُت ليس فقط إلى حالة الاستقطاب في الوسطين الأردني والفلسطيني، بل إلى تعميق الروابط الجهوية والعشائرية، بينما يَلقي البعض الآخر باللائمة على سياسات منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها التي كانت تنطلق من أيديولوجيا معادية بشكل أساسي للنظام الأردني، موظفة مخزون الذاكرة الجماعية الفلسطينية، مما دفع النظام إلى اتباع سياسات “الدفاع عن النفس” من خلال اللجوء إلى أدوات تأطير و “رقابة” غيبت المؤسسية والكفاءة باعتبارهما من أهم العوامل والمعايير اللذين تقوم عليهما الدولة الحديثة.

وبغض النظر عن المعوقات التي قد تظهر أثناء البحث والتحليل، فإن هذه العلاقة تتعرض اليوم لعدد من المعوقات والتخوفات التي تعيق الانصهار بين الطرفين. فالأردنيون في داخل الأردن يتخوفون من التزايد العددي للسكان الفلسطينيين، وبالتالي تحويل الأردن إلى فلسطين أو امتداد لها. وهذا التخوف ليس معتمداَ على الزيادة الطبيعية في السكان فقط، بل من أن تتزايد أعداد الفلسطينيين بناء على توقع هجرات كبرى قد يتعرض لها الفلسطينيون بحكم ظروف موضوعية إقليمية. وبالنتيجة النهائية قد تحول هذه الهجرات الأردنيين لمجرد أقلية في الأردن، وقد يسهل هذا تكريس فكرة الوطن البديل، مع ما يتمتع به الفلسطينيون من حقوق مدنية وسياسية. ويتعمق التخوف من العنصر السكاني، ويصبح عائقاَ أمام الوحدة الوطنية إثر الإصرار على التمسك بالهوية الفلسطينية في الأردن، ويعتبر موضوع الهوية من أكثر الموضوعات تعقيداَ وإشكالية في البلد، فليس هناك موقف واحد تجاه الهوية الوطنية، فهنالك من يطالب بأن تذوب هذه الهوية الفلسطينية بالهوية الوطنية الأردنية، وهنالك من يطالب وبشدة بالحفاظ على الهوية الفلسطينية ورموزها المختلفة، كشكل من أشكال مقاومة مشروع التصفية والتذويب الإسرائيلي.

إلا أن أمر الهوية يزداد تعقيداَ عندما يرتبط بمفهوم الولاء للدولة، الذي لم يكن مطروحاَ أثناء دولة الوحدة. ويعيد البعض أسباب نشأة هذا التعقيد إلى قيام فصائل المقاومة الفلسطينية بعد حرب 1967 بالتعبير بوضوح وقوة عن الكيانية السياسية الفلسطينية. وزاد من تكريس وتعميق هذا المفهوم أن بعض الفصائل التي كان لها تأثير نسبي كبير على الشارع في الأردن، سيطرت عليها عناصر لم تعايش تجربة الوحدة، ولم تدرك معانيها، بل عاشت وتطور فكرها السياسي في دول الخليج أو في قطاع غزة. وإذا ما كانت ازدواجية الولاء للدولة تمثل إحدى المعوقات وأحد مصادر التخوف، فإن التطورات الداخلية في الأردن، خلال السنوات القليلة الماضية ومنها الانفراج السياسي عام 1989، وموقف الحكم من حرب الخليج، بالإضافة إلى ظاهرة الاستقبال الشعبي الكبير الذي لاقاه الملك الحسين بعد عودته من رحلة العلاج في الولايات المتحدة، كلها عوامل وضعت الأرضية الضرورية لإعادة تقييم مواقف الدولة السابقة بإيجابية أكبر من قبل غالبية الفلسطينيين، فقد كان الوضع الجديد شبيهاَ -إلى حد بعيد- بالوضع الذي نشأ في الفترة ما بين 1953-1957. وهنا نؤكد اعتقادنا أن الدولة الأردنية لم تنتهز هذه الفرص التاريخية لتبدأ بالعمل على حل الثنائية الداخلية جذرياَ في ذلك الوقت.

ونؤكد في هذا السياق أن المخاوف التي تراود الأردنيين من مسألة الاختلال السكاني المتزايد لصالح الفلسطينيين، هي مخاوف جدية، لا يمكن أن تحل إلا بالتشريع ضمن إطار وحدوي، وبصورة أوضح أن يتفق في مرحلة انتقالية على مجموعة من الإجراءات التي تساعد على إزالة هذه المخاوف.

وفي المقابل يشكو بعض المواطنين الفلسطينيين، ويؤكدون على وجود تمييز ضدهم داخل الدولة الأردنية، وقد يكون أحد عوامله نظرة الشك والريبة من الدولة تجاههم بالنظر إلى مفهوم الولاء والانتماء لديهم، إضافة إلى طبيعة ونشأة الدولة الأردنية التي أنشأت مجموعة من المؤسسات الحديثة على قاعدة بنى اجتماعية غير عصرية أساسها العشائري، والطائفي، والجهوي. وربما تكون الدولة قد كرست خلال الفترة الماضية، وضمن سياسات “الدفاع عن النفس”، هذه البنى الاجتماعية لتستمد منها أسساَ لاستقرارها واستمرارها، وهو الأمر الذي عمق بعض المفاهيم غير الديمقراطية أو العصرية كأسلوب الإغداقات والأعطيات للمواطنين، وعمُق أيضا مفهوم الولاءات “الشخصية الفئوية” على حساب مفهوم متطور للولاء يتجه أولاَ نحو الدولة كتجسيد للمجتمع.

إن أنماط العمالة التي أفرزتها الظروف الموضوعية -التي سادت في الفترة من 1967-1970، وتكرست خلال السنوات التي تلتها- أصبحت مصدراَ للتخوف المتبادل، فيشير الفلسطينيون إلى استثنائهم من الوظائف البيروقراطية العليا للدولة الأردنية، وبالذات الأجهزة الأمنية التي كادت أن تصبح حصراَ على الأردنيين، وفي المقابل يشكو الأردنيون من أن الاقتصاد أصبح حكراَ على الفلسطينيين، إذ أصبح الوضع الاقتصادي للفلسطينيين الذين اتجهوا إلى الهجرة من أجل العمل في سوق الخليج ثم واصلوا أعمالهم الحرة في الأردن، أفضل من الوضع الاقتصادي للأردنيين الذين استمروا في العمل بالسلك الوظيفي، وبخاصة مع التقلبات التي شهدها اقتصاد الأردن. وأصبحت هذه الثنائية من أنماط العمالة، ظاهرة أساسية داخل الأردن، ومصدراَ من مصادر الحذر والتخوف المتبادل بين الأردنيين والفلسطينيين. فظهر الانطباع بأن الأول يسيطر على الجهاز البيروقراطي، والثاني يسيطر على رأس المال. وارتبط بهذا أيضا تطور أشكال من العمل السياسي تختلف عما كان سائداَ في البلاد، وأسطع مثال على ذلك كان بقاء التجمعات الفلسطينية خارج المشاركة في أحداث نيسان 1989.

إن المدخل إلى الحل يكمن في المحافظة على الوحدة، والتخلي كلياَ عن الممارسات التي من شأنها تعميق الخلل الداخلي. وللخروج من هذا الوضع الشائك، وكخطوة أولى، فإننا نقترح ما يلي: العمل على تعميق الديمقراطية والتعددية كأطر ضرورية نحو عصرنة الدولة وإزالة التشنجات، مستمدين ذلك من تجارب هذا البلد التاريخية. وهذا بدوره يشكل المدخل الأولي لوضع الأرضية الجديدة في سياق جديد، ويضع حداَ للخلل في أنماط العمالة في المجتمع، وبهذا تكون المواطنة والكفاءة من المعايير الموضوعية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، وهذا يعني ببساطة فتح الدولة الأردنية أمام كل المواطنين، وإطلاق الفرص أمام كل من يعمل بها للإبداع، والوصول إلى القمم الوظيفية العليا بالإخلاص والكفاءة دون أن تقف بوجه أي مواطن الاعتبارات الإقليمية، أو الطائفية، أو العشائرية. ونجاح هذا السياق، سيساهم بالضرورة في تغيير العلاقة بين المواطن والدولة في الأردن لتصبح علاقة من نوع جديد، وهذا يتطلب بالأساس خلق توجه لإدارة تنموية إبداعية تساعد في تفعيل النشاط الإنساني مستفيدة من الموارد المحلية، وأن تكون مراكز هذه الإدارات الجديدة المجتمعات المحلية وليس عمُان، وهذا يتطلب أيضاَ تغييراَ في دور “المحافظات” من مفهوم حكم إداري تقليدي إلى مفهوم تنموي يسهم في قيادة الحالة الجديدة، ويستند إلى منظومة قيمية أساسها الفعالية والعدالة.

وهذا التوجه سيسهم -إلى حد كبير- في إزالة التخوف من أن القطاع العام مغلق “للشرق أردنيين”، ومن أن التحاقهم بالوظائف الحكومية قد أضاع عليهم فرص الهجرة إلى الخليج وجمع الأموال. فبتوجيه جزء مهم من الإنفاق العام نحو مجتمعات البيئة المحلية من شأنه المساعدة في خلق فرص عمل جديدة، ومع مرور الزمن سيعاد توزيع الدخل الوطني بشكل أكثر عدلاَ. وبهذا نكون قد وضعنا حلاَ لسياسة الإغداق والأعطيات المتبعة، والاتكالية، والواسطات، والاستثناءات وغيرها من الممارسات. وسيحسن هذا من أداء المؤسسات الوطنية مما سيكون له تأثير إيجابي على نوعية الحياة في الأردن ومستواها، بما له من أبعاد إيجابية في إزالة أشكال التمييز مصدر الشكوى. وقد يكون من المفيد تطبيق فكرة “العمل الإيجابي” “Affirmative Action” في مؤسسات القطاع الخاص كإجراء مؤقت وانتقالي.

ويجب أن يترافق العمل هنا مع توجه رسمي وشعبي لتكريس الوحدة الوطنية، والتغلب على المعوقات، وبالتأكيد الدائم على ضرورات الوحدة الوطنية الموضوعية والتاريخية. فالشعارات الرومانسيةº أي العودة إلى ما كان عليه الوضع في السابق، أو الأطروحات الأحادية التوحيدية القسرية تقدم في المحصلة النهائية حلولاَ تدعو إلى تعميق الثنائية مهما حسنت النوايا. وتعميق الثنائية أمر يلحق الضرر بالمجتمع والبلاد، وهنا يستطيع الإعلام أن يؤدي دوراَ أساسياَ في هذا الموضوع عبر طرحه الأمور بإيجابية وموضوعية والتخلي عن إغماض العين عن الحقائق، ويمكن أيضاَ أن يعمق السياق الإيجابي من خلال المؤسسات التعليمية، والثقافية، والتطوعية، والنشاطات الأخرى المرتبطة بها.

وعليه يجب إدخال البعد الفلسطيني “الخالص” في النقاش، والنظر إليه بعيداَ عن الشعارات والمواقف الأيديولوجية بما لا يخدم الوحدة الأردنية الفلسطينية. وعندما نعترف أن هناك بعداَ فلسطينياَ للهوية الأردنية، فعلى الجهة الرسمية الفلسطينية بالمقابل الإقرار أيضا بأن هناك بعداَ أردنياَ أساسياَ للكيانية الفلسطينية، وأن الأردنيين والفلسطينيين في الأردن معنيون ومتأثرون بشكل يومي بما يجري من تطورات في الوسط الفلسطيني “الخالص” فمن هنا يأتي الحديث عن عدم تجزئة الشعب الفلسطيني، والبحث عن أطر وحدوية جديدة، فالوحدة تشكل نقطة الانطلاق الأولى، والمحافظة عليها لا تعني فقط حماية وتحسين النسيج الداخلي والمساهمة في تقدم البلاد ورفع مستوى نوعية الحياة، بل تشكل أيضاَ شكلاَ من أشكال تصفية آثار الاستعمار .

وختاماَ نقول إن الهدف من هذه الورقة المكثفة هو متابعة ما نقوم به من دراسات على صعيد العلاقة الأردنية الفلسطينية والمساهمة في نقل الحوار الوطني إلى مرحلة متقدمة، وهي تحتوي آراء وأفكاراَ قد لا تقبل بمجموعها، وقد يكون بعضها غير مألوف، ولكن رأينا طرحها إثراءَ للحوار الجاد في هذه القضية المجتمعية الحساسة، كما تهدف هذه الورقة إلى أخذ زمام المبادرة في مناقشة العلاقة الأردنية الفلسطينية مع التركيز على الإجماع، والحفاظ على الوحدة الداخلية، والتأكيد على أن الوحدة ليست في فراغ.

إننا، ونحن نضع هذا التصور، نؤكد أن مساهمتنا هي محاولة تجاوز الإشكالية الاجتماعية، والسياسية، والفكرية التي نشأت في ظروف خاصة، وربما استثنائية، وبالقدر ذاته محاولة تقديم رؤية لترسيخ الوحدة الوطنية في الأردن على أسس الديمقراطية، والاختيار الطوعي الحر، وعلى التعددية السياسية والفكرية، وقيم العدالة، والكفاءة، والمواطنة.

إن سنوات العيش المشترك تاريخياَ أسست -فعلياَ وواقعياَ- لوحدة اجتماعية، وثقافية، واقتصادية يستحيل فصلها، رغم كل المحطات المؤلمة التي مرت بها تلك العلاقة