آراء ومقالات

بلال العضايلة

عقد مركز الدراسات الاستراتيجية/ الجامعة الأردنية ندوتين متخصصتين حول السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط (22 أكتوبر 2025) والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه الشرق الأوسط (14 أكتوبر 2025)، وكلا الندوتين قدّم فيهما أكاديميين وساسة من روسيا والاتحاد الأوروبي قراءة معمّقة لتوجهات ومصالح كل منهما تجاه المنطقة، وقيّما الموقف الأمني المُحدِّد لسلوك كل منهما في بيئة الشرق الأوسط المعقّدة.

بصورة عام يتباين الموقف الأمني الخاص بكل من روسيا والاتحاد الأوروبي، فكل منهما له محدداته وأولوياته، لا بل تمثّل الحالة الأوكرانية شاهداً على صراع أمني يحاول فيه كل طرف الاستئثار بمكاسب على حساب الآخر في منطق صفري يغيب فيه التوافق وتكون وجهات النظر متباعدة إلى درجة أن منطقة “منتصف الطريق” للحل تبدو سراباً.

ورغم تصارع المنظورين الأمنيين لكل منهما، إلا أن الندوتين اللتين عقدهما المركز أظهرتا حالة من التقارب إزاء كيف ينظُر أمنياً كل منهما تجاه الشرق الأوسط، صحيح أن الأدوات التي يتم فيها تنفيذ السياسة الخارجية تتباين (مثلاً تتبنى روسيا منطق صلب في حين يتبنى الاتحاد الأوربي منطق مرن) إلا أن التوجهات العامة لكل منهما ليست متصارعة كما هو الحال في إفريقيا.

فمثلاً تتقارب وجهتي نظر الاتحاد الأوروبي وروسيا فيما يتعلق بحل القضية الفلسطينية، والموقف العام من سوريا، وكل منهما لا يخدم تصعيد نزاعات المنطقة مصالحه، وحتى لو تعارضت هذه المصالح فإن هنالك تشابه نسبي في الهدف النهائي. بطبيعة الحال تظل هنالك تباينات لا يمكن إغفالها كما في العلاقة مع إيران وحالة الطاقة، فبينما تحرص روسيا المصدّرة للطاقة على التنسيق مع دول أوبك+ للحفاظ على أسعار النفط؛ يبحث الاتحاد الأوروبي عن مصادر استيراد موثوقة.

وأكثر الطروحات المتشابه التي تم عرضها في الندوتين  حيال المنطقة هي الدعوة إلى أن تبادر دولها الرئيسية إلى بلورة نظام أمني يراعي اعتباراتها الخاصة ولا يقصي طرف ولا يكون موجّه بالضّد من أي طرف، فمن شأن هكذا نظام أن يقلل من التأثيرات السلبية الناتجة عن حالة الاضطراب التي يمر بها النظام الدولي.

وفي الواقع هذه الدعوة إلى إنشاء هكذا منظومة إقليمية تنسجم مع سمة أساسية تجمع عليها تقريباً معظم أدبيات الدراسات الأمنية في الشرق الأوسط، وهي أن الأمن والاستقرار في المنطقة عادةً ما يرتهن بوجود طرف خارجي يؤدي دور “المزوّد الأمني” الموازِن لمجمل التفاعلات في المنطقة. وهذه الحالة الاعتمادية على طرف ثالث تزيد من حالات زعزعة الاستقرار لأن الأمن لا ينبع من تفاهمات داخلية وإنما يتحفّز من أطراف خارجية قد يكون لها دور عكسي تبعاً لمصالحها.

بهذا الاتجاه لا بد من تسليط الضوء على البنية الأمنية الشرق أوسطية في ظل الحالة التنافسية للقوى الدولية، وتعد قراءة هذه البنية معقّدة لأكثر من عامل، فأولاً يعتبر الإقليم موئلاً للدول الهشة غير المستقرة، وثانياً مرتعاً للجماعات المسلحة من غير الدول سواء الإرهابية أو الإجرامية العابرة للحدود، وثالثاً، الدور السلبي للعامل الإسرائيلي في تكريس الاضطرابات وبثّ الاحباط ، ورابعاً، وارتباطا بالعوامل السابقة ولعدم وضوح حالة السيطرة في الإقليم فإنه يعدّ تاريخياً أحد أبرز الساحات للتنافس الدولي للظفر بموارده، كالثروات الطبيعية من النفط والغاز ومضائقه الجيوسياسية الرابطة بين أقصى الشرق والعمق الغربي.

كل هذه العوامل تضغط نحو هندسة “محلية” للأمن في الشرق الأوسط، والاستفادة من الحالة التنافسية الراهنة – أو الانتقالية بحسب بعض التقييمات – في النظام الدولي لبلورة نظام أمني شبه مكتفي ذاتياً وغير مؤطر في الضدّ من أي طرف. وهنا لا بد من التذكير بالحالات التي واجهت فيها دول من المنطقة أزمات بسبب صعوبة ضبط علاقاتها مع المتنافسيين الدوليين، كما حالة شراء تركيا منظومة دفاع جوي روسية الصنع وما تلاها من ردود فعل أمريكية صارمة.

وفي هذا الصدد علّق أحد المتحدثين في الندوة الخاصة بروسيا والشرق الأوسط، مدير معهد الدراسات الدولية في جامعة MGIMO، البروفيسور ماكسيم سوتشكوف، بأن هنالك توجّه لدول المنطقة المتقاربة مع الغرب لتعزيز هامش تصرفها السيادي وتنويع علاقاتها الخارجية، لكنه أشار إلى أن هذا التّوجه لا يزال يتطلب أموراً ملموسة، بما في ذلك في القطاع العسكري مبدياً رغبة واستعداد روسيا للتعاون في هذا المجال.

ومن غير المنطقي ما تذهب إليه بعض الطروحات في الخلط ما بين بناء نظام أمني إقليمي، وبين استبدال الصين وروسيا بالدور الأمريكي كمزوّد أمني إقليمي، لأن أي طرف خارجي سينطلق من مصالحه الذاتية واعتباراته الخاصة، فهذا الاستبدال يبقي على المعضلة الأمنية الشرق أوسطية كما هي، ألا وهي “الارتهان الأمني على طرف ثالث”.

ولا يقصِد المقال أن يكون النظام الأمني الإقليمي منغلقاً على ذاته وإنما متفاعلاً مع باقي العوامل الدولية على أن تُحدَّد حالة الأمن وفقاً لمنطلقات الإقليم واحتياجاته. وقد تشكّل اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان نقطة انطلاق نحو منظمة أمنية متعددة الأطراف شبيهة بالناتو.