بلال العضايلة
يمكن تتبع تحولات الثقافة السياسيّة في إسرائيل من اليسار العلماني إلى اليمين الأصولي تبعاً لمسار الصراعات الرئيسية التي خاضها الاحتلال، فمن اليسار الذي خاض حرب التأسيس إلى اليمين الحالي الذي يخوض “حرب النهضة” مرت البنية الاجتماعية الإسرائيلية بتحولات جذرية كرد فعل لوقائع سياسية. فمثلاً بعد حرب الغفران 1973 ابتدأ اليسار بالانكفاء، وبعد أوسلو 1993 جنح اليمين العلماني نحو تلموده وتطرفه الأصولي الديني.
بهذا الاتجاه ينبغي التفكير عمّا إذا كان القصف الإيراني غير المسبوق سيقود إلى تحولات في البنية الاجتماعية الإسرائيلية، فالقصف يتركز في تجمعات غير مصنفة على أنها تتبع لليمين الأصولي، كغوش دان وبات يام في تل أبيب، إذ تميل التجمعات في مراكز المدن الرئيسية إلى عدم الاكتراث والاهتمام بالشأن السياسي، وإلى عدم تأييد الفكر اليميني الأصولي سواء تجسّد باتجاه قومي “كالليكود” أو ديني “كحزب القوة اليهودية”.
فالقصف الإيراني نحو هذه المراكز قد يحمل بوادر تغير جذري في التوجهات السياسية لقاطنيها، بحيث يزداد ميلهم نحو اليمين الأصولي وليبتعدوا عن خانة تياري اليمين العلماني واليسار واللذين – وتحديداً اليسار- يمران أصلاً في حالة من الانكفاء على وقع تزايد التحالف بين الطيف اليميني بشقيه القومي والديني.
وبصورة عامة يتفق المجتمع الإسرائيلي المختلف سياسياً على مسألة ضرورة معالجة التهديدات الإيرانية بشكل جذري، فحسب مسح أجراه المعهد الديمقراطي الإسرائيلي “Israel Democracy Institute” أواخر أبريل 2025، بلغت نسبة اليهود الاسرائيليين الذين يؤيدون ضرب المنشآت النووية الإيرانية حتى من دون اتفاق أمريكي بـ52%. ويتماهى المجتمع الإسرائيلي مع النخبة السياسية في اعتقاد عدم جدوى الحلول الدبلوماسية للملف النووي الإيراني، ففي استطلاع أجراه نفس المعهد بالتعاون مع جامعة تل أبيب في أغسطس 2015 بعد توقيع ما عُرف بالاتفاق النووي في يوليو من نفس العام؛ كشف 78% من اليهود الإسرائيليين عن اعتقادهم بأن إيران لن تفي بالتزاماتها بموجب الصفقة.
وأظهرت تصريحات قادة المعارضة السياسية انسجامهم وتأييدهم إلى “موقف الدولة” ممثل بحكومة نتنياهو في التصعيد الأخير الدائرة رحاه بين إيران وإسرائيل، فرغم حالة التنافر فيما يتعلق باستمرار الحرب على غزة ومقاومة نتنياهو “إغراء” الإفراج عن الرهائن؛ وضع الإسرائيليون خلافاتهم وتجندوا تحت لواء راية الحرب في انتظار سيناريوهات قصوى.
في المقابل، وعلى النقيض من افتراض جنوح قاطني مراكز المدن نحو تيار اليمين الأصولي، قد تدفعهم حالة الخوف والضرر الاقتصادي نحو نبذ هذا التيار لما ترتّب على سلوكهم من تداعيات وأزمات كان بالإمكان تجنّبها، فتعطّل الحياة اليومية الطبيعية قد يقود إلى مراجعات فكرية ذاتية تعيد تعريف علاقة الإسرائيلي بالفكر اليميني الأصولي لما نجم عن هذا الفكر من جمود سياسي وضرر استراتيجي مسّ الدولة برمّتها.
ومما قد يحفّز مثل هذه المراجعات هو هشاشة الاندماج الفكري في التيار اليميني الأصولي (اليمين القومي واليمين الديني) فرغم تلاقي هذا التيار سياسياً إلا أن المنطلقات الفكرية لكل جناح تظل متباينة، ويكاد يكون عامل الوحدة الأبرز هو التوافق حول هدم حل الدولتين ومعالجة الأخطار المحيطة بإسرائيل. وتجسّد أزمة تجنيد الحريديم مثال صارخ على التباينات الجذرية بين اليمين بشقيه القومي والديني.
ومن الضرورة بمكان في هذا السياق لفت النظر إلى ضرورة عدم التعويل على التباينات السياسية الإسرائيلية من أجل إحراز تقدم سياسي نحو حل الدولتين أو تغيير المقاربات السياسية الأسرائيلية الرئيسية، ذلك أن العقل الجمعي اليهودي في إسرائيل بكليته يعتنق مبادئ مشتركة فيما يتعلق بثلاثية الهوية الإسرائيلية : الأرض والقدس والديمغرافيا.
بكل الأحوال لن تكون الانتخابات التشريعية المقبلة في إسرائيل (موعدها المقرر هو أكتوبر 2026 مع احتمالية عقد انتخابات مبكرة في سيناريوهات معينة) انتخابات تقليدية وإنما ستكون استفتاء على حالة الهوية والتطرف في المجتمع الإسرائيلي، وإلى حين جلاء تأثير الاشتباك الإيراني الإسرائيلي الحالي على التوجهات الفكرية والسياسية في المجتمع الإسرائيلي، ستظل الساحة المحلية الإسرائيلية في حالة من إعادة التشكل استناداً على معطيات واقعية وأخرى مستمدة من المناورات السياسية التي تدور رحاها على امتداد الخارطة السياسية.
