تقدير الموقف

بلال العضايلة

تبادلت القوتان النوويتان، الهند وباكستان، ليل 6 مايو 2025 ضربات عسكرية أسفرت عن سقوط قتلى مدنيين وإسقاط عدة مقاتلات عسكرية بحسب بيانات عسكرية رسمية. وفيما وُصف بأنه الاشتباك الأعنف بين الجانبين منذ عقدين؛ لا يزال الترقب سيّد الموقف وسط رصد الإعلام الدولي ومتابعة مراكز السياسة الدولية لمآلات التصعيد الحالي.

وتتعدد مسبّبات النزاع الهندي الباكستاني، أبرزها هو الوضع القانوني لإقليم كشمير وجامو ذي الأغلبية المسلمة المؤيدة للسلطة الباكستانية. وترافق المسألة الكشميرية استقلالَ كلا الدولتين، إذ ترجع جذورها إلى عام 1947 الذي صدر فيه القرار البريطاني باستقلال الهند مانحاً سكان بعض الأقاليم المتداخلة مع باكستان حق تقرير المصير بالانضمام للهند أو لباكستان. وتبعت أغلبية هذا الإقاليم السلطة المقاربة لإثنيتها.

لم تشذّ كشمير عن هذه القاعدة، لكن حاكم كشمير الإداري الذي كان ينتمي للطائفة الهندوسية خالف رأي الأغلبية وأوصى بالانضمام للهند، ومن أجل طمأنة مخاوف قاطني كشمير وضع زعماء الهند الإقليم تحت وضع دستوري خاص ضمن الاتحاد الهندي في المادة 370 التي منحت الإقليم نوعاً من الاستقلال الذاتي وصل إلى حد منع الهنود شراءَ العقارات في كشمير وجامو.

واستمر العمل بهذه المادة حتى عام 2019 عندما تم إلغاء هذا الوضع الدستوري الخاص، فيما اعتبرته السلطات الهندية محاولة لإعادة تنظيم الدولة، إلا أنه ثمة إجماع على أن الإلغاء تمّ في بيئة تفاقم فيها المدّ القومي وتصاعد العداء الإثني والطائفي إلى درجة تدفع ببعض المراقبين إلى وصف ما يجري في الهند على أنه صعود لشعبوية يمينية هندوسية.

بطبيعة الحال لم يرق هذا الإلغاء لباكستان الرسمية والشعبية، لما لكشمير من أهمية جيوسياسية ومائية إذ تعتبر منبع وممر للأنهار المشتركة بين الدولتين، وقد جرى إقرار صيغة تفاهمية لإدارة هذا الشأن في معاهدة مياه نهر السند 1960 التي رعاها البنك الدولي. كما يثير الترابط الطائفي والقبلي بين كشمير والمناطق المحاذية في باكستان حساً بالتضامن والنصرة لـ”إخوانهم” ضد ما يشاع عن انتهاكات تقوم بها جهات رسمية وأخرى متطرفة تجاهر بنشر خطابها وأفعالها على منصات التواصل الاجتماعي.

في هذه البيئة المشحونة، استهدف هجوم إرهابي في كشمير سياحاً هنود أودى بحياة ما لا يقل عن 26 مدني، وتبنّته “جبهة مقاومة كشمير” المرتبطة بجماعة “لشكر طيبة” والمشكلّة بعد إلغاء المادة 370 الدستورية عام 2019. وسرعان ما اتهمت نيودلهي اسلامَ إباد بالمسؤولية عن الهجوم لما تقيّمه الهند أمنياً من أنه رعاية وتسهيل ممنهج من قبل تيارات رسمية باكستانية للجماعات المسلحة في المناطق الحدودية.

إذاً، يعيد هذا الاشتباك الذي لم تخمد ناره بعد التأكيدَ على مسألة ملحّة للأمن الدولي، وهي ضرورة توفير حل مرضي ومشترك لسبب النزاع الهندي الباكستاني، وهو إقليم كشمير وجامو. كما يتعيّن إجراء معالجة سياسية عاجلة واجتماعية متأنية للتطرف الإثني المستشري فيما يحيط بالتوتر الجيوساسي الهندي الباكستاني، ذلك أن هذا التطرف يشحن أسباب الخلاف ويزيد من تعقيدها ويعرقل فرص حلها.

ويقدم تقدير الموقف التالي تقييماً موجزاً للاشتباك الحالي على منحنى شدة الصراع، ويحاول تحديد مساره مقدماً أبرز العوامل التي تدحض احتمالات التصعيد.

صراع عميق لكن متحكّم به: اشتباك ما دون العتبة

توفر أدبيات العلاقات الدولية / فض النزاعات مدخلاً لتقييم الاشتباك الهندي الباكستاني، فعبر منحنى الصراع يمكن ضبط حدّة وشدة الصراع بطريقة منهجية موضوعية بعيداً عن انفعالات الإعلام وعن إطلاق المصطلحات جزافاً. واستناداً على هذه الأدبيات ومنحنيات تقييم الصراعات – كالذي يعتمده برنامج Uppsala لدراسة النزاعات، يُلاحظ أن ثمة عوامل تشير إلى  شدة عالية للاشتباك وأخرى شدة منخفضة. ولتفصيل ذلك:
أ- شدة عالية للاشتباك

1- تعدد وتعقدّ القضايا

يعبّر الاشتباك الدائر عن صراع متعدد الأبعاد تداخلت فيه العوامل الهوياتية الاثنية مع الطموحات السياسية بالانفصال وتقرير المصير. كما يحمل الصراع أبعاد أمنية متصلة بالإرهاب والجماعات المسلحة وبالاقتصاد والأمن المائي، فاتفاقية مياه السند لم تنجح بصورة كاملة في توفير حل عملي لمصادر المياه المشتركة.

2– طول أمد النزاع

يعبّر الاشتباك الأخير عن أحد أطول النزاعات الإقليمية الدولية، إذ يرجع إلى ما يزيد عن 75 عاماً تغيّرت فيه حدته تبعاً لعوامل واعتبارات عدة، لكن غلب الصراع منخفض الحدة على امتداد هذه الفترة الزمنية، ونجحت اتفاقيات وقف إطلاق النار والتفاهمات الأمنية الواقعية في تجنب التصعيد نحو مستويات حرجة. ومع ذلك لم ترقَ المعطيات إلى حالة تسوية النزاع حتى في أشد المراحل إيجابيةً.

3- الضرر التنموي

أدّت عسكرة المناطق الحدودية المأهولة بالسكان إلى تعطيل التنمية والحياة المدنية، وإلى زيادة الانفاق العسكري على حساب قطاعات حساسة كالتعليم والصحة. كما تؤدي الاشتباكات إلى إجراءات احترازية تزيد من الحكم الشمولي بحجة الأمن وحماية مصالح الدولة.

ب- شدة منخفضة للاشتباك

1- الخسائر البشرية والمادية

رغم عمق القضايا المتنازع عليها وشدّة الشحن السياسي المجتمعي، إلا أن عدد القتلى جرّاء الصراع بقي محدوداً ومتحكّم به. ويعتمد برنامج “Uppsala” لدراسة النزاعات معيار وقوع أكثر من 1000 قتيل/سنة من أجل تصنيف نزاع ما على أنه حرب.
بهذا الاتجاه لا يبدو النزاع الهندي الباكستاني حاداً أو كثيفاً. والأمر ذاته ينطبق على حجم الدمار الناجم عن الاشتباكات المتقطعة، فهي تظل محصورة في البعد العسكري ولم ترقَ إلى المنشآت المدنية الحيوية.


2- الانتشار الجغرافي

تنحصر الاشتباكات والمناطق المتنازع عليها في نطاقات حدودية جغرافية، ونادراً ما تصل إلى العمق الجغرافي. ولكن ذلك لا يعني أن آثاره وتداعياته لا تطال كل الجغرافيا، لأن النزاع الهندي الباكستاني هو ثقب أسود يستنزف موارد ومخصصات الدولة ويحرم قطاعات حيوية من مخصصات مالية لصالح العسكرة.

3- مستوى الانخراط الدولي

لا يعبر النزاع الهندي الباكستاني عن نقطة جذب دولية للصراعات، فلا وجود لخندقة مواقف دولية واصطفافات عسكرية لدول إقليمية حول كشمير. لا بل تتشارك الهند وباكستان شركاء دوليين كالولايات المتحدة والسعودية، وتميل نظريات الصراع إلى تبني مقاربة قدرة طرفين يجمع بينهما صديق أو حليف على تجنب سيناريوهات قصوى، كالحرب الشاملة مثلاً.

تجدر الإشارة إلى أن الصين تولي باكستان أهمية استراتيجية لاعتبارات تتصل بتطويق الهند؛ منافسها الجيوسياسي العنيد. وأيضا لأهمية باكستان في استراتيجية الحزام والطريق وتحديداً عبر مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.

إذاً، يُظهر تقييم حدة الاشتباك الحالي ضمن النزاع الباكستاني الهندي الواقعَ المزمن المستعصي على الحل لهذا الصراع، وهو يظل دون عتبة الحرب المفتوحة “Subthreshold Conflict” عالقاً في حلقة مفرغة من التصعيد وخفض التصعيد دون وجود أفق موثوق لاستراتيجية عملية يمكن لها أن تقود إلى تسوية حقيقية مستدامة.

صراع على حافة الهاوية 

قيّم البند السابق عوامل حدّة الصراع الباكستاني الهندي التي تتراوح بين المنخفضة والعالية، وبكل الأحوال يظل شبح تفاقم اشتباك ما إلى حرب واسعة النطاق قائماً. ولكن، وضمن المعطيات الحالية فإن الواقعية السياسية تفرض أن كلا الطرفين سيجنحان إلى خفض التصعيد والعودة إلى حالة النزاع الكامن، ومن هذه العوامل:
1- الدمار المتبادل المؤكد: ثمّة مصطلح حيوي في الدراسات الأمنية النووية وهو الدمار المتبادل المؤكد “MAD= Mutual Assured Destruction” ويشير إلى الحالة التي تندلع فيها حرب بين دولتين نوويتين متكافئتين، حيث تستطيع كل دولة إلحاق أكبر أذى ممكن بالدولة الأخرى.

وقد غيّر تطوير السلاح النووي من مفاهيم الردع إذ جعلها أكثر وضوحاً وتحديداً نظراً لما يترتب على استخدام السلاح النووي من كلف وجودية. ويدرك كلا الطرفين ذلك، لذلك تؤكد العقائد العسكرية والتعهدات السياسية لباكستان والهند على حدٍّ سواء عدم اللجوء إلى استخدام السلاح النووي إلا في ظروف مشددة، فالهند تعتمد استراتيجية نووية دفاعية ترد بالمثل ولا تبادر استباقياً إلى شن هجوم نووي “No – First – Use Policy”. في المقابل لا تعتمد باكستان هكذا سياسة نووية، فهي تقر استخدام أسلحة نووية تكتيكية ضمن استراتيجية أوسع لتعويض تفوق الهند في مجال الأسلحة التقليدية وافتقارها إلى عمق جغرافي مشابه للذي تتمتع به الهند، الأمر الذي يجعل من خيار “الضربة الثانية الانتقامية” غير عقلاني في المنظور الباكستاني.

تجدر الإشارة إلى أن كلا الدولتين، وتحديداً باكستان، تفتقران إلى أنظمة دفاع جوي متقدمة يمكن لها الرصد المبكّر والاعتراض الفعال لصواريخ بالستية فرط صوتية، مما يزيد من احتمالية إصابة الصواريخ النووية حال إطلاقها.

2- البيئة الداخلية المضطربة: تعاني كلا الدولتين من احتقان مجتمعي لعوامل سياسية واقتصادية بصورة أساسية. بهذا الاتجاه يمكن فهم الاشتباكات العسكرية محسوبة النطاق على أنها تعكس البيئة المجتمعية المضطربة وليس الإرادة السياسية، إذ يمكن للاشتباكات المحدودة أن تعيد التماسك المجتمعي في باكستان والهند، وأن ترفع من مستوى التأييد السياسي. 

في المقابل، يرى بعض الخبراء والمراقبين أن الحروب تندلع كوسيلة لتفجير أزمات محلية نحو الخارج، وهذا الطرح منطقي لكن من غير العقلانية افتراض أن هذا التفجير قد يأخذ شكل حرب واسعة بين دولتين نوويتين.

3- الواقع الجيوساسي: تعاني كلا الدولتين من أزمات جيوسياسية لا تقل أهمية عن المسألة الكشميرية. فبالنسبة للهند تتصل أولويتها القصوى الخارجية بإدارة التنافس مع خصمها الحدودي الصيني، كما أنها تدرك أن أي اضطراب أمني واسع النطاق سيطيح بالمشروع العالمي لإقامة سلاسل توريد من الهند إلى أوروبا مروراً بالخليج العربي، وهو المشروع الذي تريد منه واشنطن مزاحمة “الحزام والطريق”.
أما باكستان فهي تعاني أيضاً من هشاشة أمنها الجيوسياسي، فحدودها مع إيران غير مستقرة إذ تنتشر قومية البلوش السنية على امتداد التداخل الجغرافي الإيراني الباكستاني، وكان هذا التداخل مسرحاً لتبادل نار جرى تطويقه في يناير 2024، إذ تعتقد طهران أن جماعة جيش العدل السنية تتخذ من بعض الجيوب الباكستانية معقلاً للعمل والتخطيط ضد إيران.

وفي سياق متصل، ترتبط الهند وباكستان بأصدقاء دوليين مشتركين يمكن لهم الوساطة والضغط لإحراز تسوية حقيقية، فليس من صالح الولايات المتحدة اندلاع حرب في آسيا الوسطى بين الهند وباكستان لاعتبارات ليس أقلها دور الهند في الاستراتيجية الأمريكية لتطويق الصين وليس آخرها مخاوف تفريخ جماعات إرهابية في الإقليم على وقع الانهيارات الأمنية جرّاء الحرب. 

4-الأزمات الاقتصادية: تُظهر المؤشرات الاقتصادية أن كلا الدولتين في غنى عن اندلاع حرب شاملة، فباكستان تعدّ العدة للخروج من حافة الانهيار الاقتصادي بعد أن بلغ التضخم في مايو 2023 مستوى ذروة 38%، وهو في هذه المرحلة عند مستويات مقبولة إذ تباطئ معدل التضخم الاستهلاكي في ديسمبر 2024 إلى 4.1%. وتنخرط اسلام اباد في محادثات صعبة مع البنك الدولي لإعادة هيكلة الاقتصاد للحصول على مزيد من القروض، وهي بالتالي لا تملك رفاهية شن حرب.

وليس الحال بأفضل في الهند، فسنة 2024 المالية – تنتهي السنة في مارس 2025- سجّل الاقتصاد أدنى نسبة نمو منذ جائحة كورونا عند 6.4%، في حين بلغت النسبة في السنة المالية السابقة 8.2%. وتسخّر الهند جهودها للتغلب على الفقر، ووفقاً لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي، يعاني 14.9% من الفقر متعدد الأبعاد في (2019-2021)، في انخفاض جوهري من 24.8% في 2015-2016. وهو ما يدلل على نجاعة استراتيجية التغلب على الفقر.

إذاً، كلا الدولتين لهما أولويات اقتصادية ملحّة تدفعهما إلى تجنّب التحول إلى اقتصاد حرب يُخصَّص به الانفاق نحو المجال العسكري وتُهمَّش باقي الجوانب الملحة تنموياً وانسانياً.

الخاتمة : مخاطر التسليم بخفض التصعيد

ثمة متلازمة سيكولوجية خطيرة إن وقعت في المجال السياسي، وهي “الانحياز نحو الحالة الطبيعية” أو الحالة المنطقية، وفيها يثق الفرد – أو حتى الدولة – باستمرارية الوضع القائم دون تغيير ويميل للتقليل من سيناريوهات كارثية أو غير مألوفة. وبسبب هذا الانحياز يتم تجاهل تنبيهات واضحة من خطر محتمل.

بهذا الاتجاه لا ينبغي للبند السابق أن يزيح من الأذهان سيناريو الحرب الشاملة، وليس بالضرورة أن تندلع هذه الحرب كنتيجة لعملية صناعة قرار أي بوجود نية وتعمد لبدئها، فالحرب قد تندلع رغماً عن إرادة كلا الطرفين، ويطلق على ذلك الحرب بالخطأ ” War by Mistake” التي قد تحدث بسبب خطأ في التقديرات والحسابات، ويمكن أن يضاف عامل آخر للخطأ، وهو الذكاء الاصطناعي، إذ توظّف الهند الذكاء الاصطناعي في قدراتها العسكرية، وقد يقود التوسع في أتمتة الأنظمة العسكرية إلى وقوع أخطاء خصوصاً إذا كانت هذه الأتمتة تتيح التعامل الميداني وإطلاق النار دون تدخل بشري.

لذلك، وحفاظاً على السلام النووي البارد بين باكستان والهند، لا بد أن يركز الوسطاء ليس فقط على خفض التصعيد وإنما أيضاً على ضرورة إعادة الروابط الإيجابية بين البلدين في أسرع وقت، كإعادة العمل باتفاقية السند لتقاسم المياه، وإعادة انتظام عمل المعابر الحدودية، والأهم من ذلك ضرورة تجريم الخطاب العدائي المتطرّف لأن هذا الخطاب يديم الشحن الأيديولوجي ويحول دون التفكير في آفاق التسوية الكاملة الجذرية، مما يبقي احتمالية الانزلاق من حافة الهاوية نحو أتون مواجهة نووية – قد تكون الصاعق لحرب عالمية ثالثة – قائمة.