عبدالله زهير قرباع
غالبا ما يرتكز صعود قوة دولية جديدة على الساحة العالمية على استخدامها لأداة محددة، سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك. ومع مرور الوقت، تتحول هذه الأداة إلى وسيلة رئيسية تعتمدها هذه الدولة للحفاظ على المكانة التي حققتها حتى تصل لمرحلة الإفراط في الاعتماد على هذه الأداة، وذلك دون النظر لتغير سياق التنافس الدولي من مرحلة لأُخرى. مما يؤدي بالدولة للتراجع مقابل صعود قوة أُخرى بأداة أُخرى.
فقد اعتمدت بريطانيا على تفوقها البحري والتجاري خلال القرن التاسع عشر لتأسيس شبكة من المستعمرات، إلا أن عدم قدرتها على التكيف مع التحولات الصناعية والاقتصادية للقرن العشرين، أدى إلى تراجعها التدريجي رغم محاولاتها في الحفاظ على نفوذها. وكذلك، اعتمد الاتحاد السوفيتي على المزج بين القوة العسكرية والإيديولوجية، لكنه فشل في تجديد أدوات التنافس التي تبقي بمكانته، مما ساهم في انهياره. وأيضا فإن وصول الولايات المتحدة لموقع الهيمنة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي، ارتبط بتفوقها العسكري والاقتصادي. وكذلك فإن أدوات الحفاظ الأمريكي على هذه الهيمنة اتجهت بشكل متزايد نحو القوة العسكرية، كما يظهر في التدخلات المباشرة في كوريا، فيتنام، العراق وأفغانستان، إلى جانب إنشاء شبكة من التحالفات الأمنية مثل حلف الناتو ونشر العديد من القواعد العسكرية حول العالم.
يتطلب السياق الدولي الجديد، والذي من الواضح أنه الأكثر تعقيدا من بين سياقات التنافس الدولي السابقة، أدوات تنافس غير تقليدية انتجها التقدم التكنولوجي والعلمي والتنموي. لذا ففي حين تحافظ الصين على أدوات التنافس التقليدي، كالقوة العسكرية، تتجه أيضا نحو نموذج غير تقليدي. فالصعود الصيني على مدار العقود الأربعة الماضية اعتمد بدرجة كبيرة على أدوات اقتصادية وتنموية. بداية من سياسات الإصلاح والانفتاح أواخر السبعينيات، وصولا لمبادرة الحزام والطريق عام ٢٠١٣، والتي تهدف لربط الصين بالعالم من خلال شبكة من الطرق البرية والبحرية والاستثمارات الخارجية. كما أن الأداة الاقتصادية الصينية لا تقتصر على التجارة والاستثمار، بل تمتد إلى دبلوماسية القروض، كما في حالة ميناء هامبانتوتا في سريلانكا، الذي انتقل إلى الإدارة الصينية بعقد إيجار طويل الأمد بعد تعثر السداد. وعند النظر لمناطق الجوار الصيني، نجد أن الصين تستند على ما يمكن تسميته بسياسة الإحلال Replacement Policy، تعمل من خلالها على احلال ذاتها بدلا من التواجد الأمريكي هناك من خلال جذب الدول تنمويا وتجاريا، وهو ما يكشفه التزايد في الترابط الاقتصادي الصيني مع دول ASIAN مقابل تراجع هذا الترابط بين هذه الدول والولايات المتحدة. لكن إلى جانب ذلك، تمثل مجالات التكنولوجيا كالذكاء الاصطناعى وشبكات الجيل الخامس وصناعة السيارات والطاقة المتجددة وغيرها من المجالات الحديثة، أدوات تنافس غير تقليدية تعزز من مكانة الصين العالمية. ولمجاراة الصين في هذا التنافس، وحفاظا على مكانتها الدولية، تحاول الولايات المتحدة توظيف واستحداث أدوات غير تقليدية.. ونظرا لعدم كفاية الخبرة الأمريكية للحد الذي يمكن من خلاله منافسة الصين، تدفع الولايات المتحدة، بصبغة جيوسياسية، دول أُخرى في هذه المنافسة مثل تايوان التي أصبحت المنتج الرئيسي لأشباه الموصلات، وكذلك الهند التي أعلنت الولايات المتحدة دعم ممرها الإقتصادي والذي يتضمن أدوات منافسة غير تقليدية، خاصة في مجالي الطاقة والتكنولوجيا، ليوازي مبادرة الحزام والطريق الصينية. وكذلك هناك تقارب بين شركات ورجال أعمال في قطاعات التكنولوجيا والصناعة الحديثة في الولايات المتحدة، مثل ايلون ماسك، مع الإدارة الأمريكية.
تُظهر هذه الحالات أن الدول تميل إلى ترسيخ الأداة التي منحتها القدرة على الصعود كوسيلة أساسية للحفاظ على مكانتها، حتى وإن بدأت تلك الأداة تفقد فاعليتها أوعدم ملائمتها للسياق الدولي الجديد. لكن الدول التي تفشل في تطوير أدواتها ستتعرض مكانتها الدولية للتآكل التدريجي. وربما سيكون التنافس الحالي غير التقليدي، تنافسا تقليديا في المستقبل عند ظهور سياقات تنافس جديدة.

مركز الدراسات الإستراتيجية