آراء ومقالات

ايمان فرحان حداد

في زاويةٍ من هذا الشرق المثقل بالتهجير، يقف الأردنّ، لا كقوة عظمى، ولا كدولة مكتفية، بل ككيان صغير في الجغرافيا… عظيم في امتحان الضمير.

أن تستضيف اللاجئ مرةً واحدة هو موقف.
أن تستمر في استضافته عبر العقود، وفي كل موجة تهجير، رغم ضيق الحال وشحّ الموارد، هو مسار أخلاقي يتجاوز الطارئ إلى الجوهري.
هذا ما فعله الأردن، لا فقط لأنه ملتزم بالاتفاقيات، بل لأنه يرى في حماية الإنسان جزءًا من رسالته في الإقليم.

ما نحاوله هنا ليس تعدادًا إحصائيًا، ولا استعراضًا للسياسات، بل محاولة لقراءة المشهد من زاوية إنسانية/سياسية، ترى في اللاجئ أكثر من رقم، وفي الدولة أكثر من سلطة إدارية.
ما الذي تعنيه الاستضافة حين تطول لعقود؟
وهل لا يزال من الممكن الحديث عن “استجابة إنسانية” في ظل هذا الإرهاق المزمن؟
وهل يستطيع الأردن أن يوازن بين اعتبارات السيادة ومبادئ الحماية دون أن يُفرّط بأحدهما؟

قد لا نملك إجابات نهائية، لكننا نملك ما هو أهم: تأملٌ مسؤول، وإيمانٌ بأن ما يُبقي الدول حيّة ليس فقط قوتها، بل قدرتها على حماية الإنسان حين يتهاوى العالم من حوله.

الأردن والدور الأخلاقي في استضافة اللاجئين

منذ اللحظة الأولى التي أُجبر فيها الإنسان على عبور الحدود هربًا من الخوف أو القصف أو الفقد، وقف الأردن على الضفة الأخرى من الخراب حارسًا للنجاة. لم تكن الاستضافة يومًا حسابًا في دفتر التكاليف، بل كانت، وما تزال، موقفًا أخلاقيًا متجذرًا في هوية الدولة ومؤسساتها.

لم يكن الأردن يومًا غنيًا بما يكفي ليُقال إن قدرته على الاستقبال مسنودة بترف فائض، بل كان قراره بالاستقبال محفوفًا دومًا بالمخاطر. ومع ذلك، فتحت المملكة أبوابها للفلسطينيين بعد النكبة، وللعراقيين بعد الحصار ثم الاحتلال، وللسوريين الهاربين من جحيم الحرب. لم يكن الأمر طارئًا، بل سيرة طويلة من الوقوف مع الإنسان في لحظات انكساره الكبرى.

ومع توالي الأزمات، لم تتغير فلسفة الدولة الأردنية، بل ازدادت تجذرًا في مبادئها الإنسانية. لطالما شدد جلالة الملك عبد الله الثاني، في محافل دولية عديدة، على ضرورة احترام كرامة اللاجئين وعدم تحميلهم تبعات نزاعات لم يختاروها. وتتجلى في مواقفه السياسية رؤية واضحة: فاللاجئ ليس مجرد رقم في إحصاءات اللجوء، ولا ضيفًا مؤقتًا فحسب، بل إنسان له كرامة يجب أن تُصان، وحقوق لا يجوز طمسها تحت غبار الحاجة.

هذا الموقف الثابت لا ينبع فقط من الالتزام باتفاقيات دولية، بل من بُعد إنساني عميق في نهج الدولة الأردنية. إنها دولة صغيرة بالموارد، لكنها كبيرة بالفعل الأخلاقي، ترى في حماية اللاجئ مسؤولية مشتركة، لا عبئًا مرميًا على الهامش.

من السهل أن نغرق في سرد المعاناة، لكن الأصعب والأصدق أن نُسلّط الضوء على استجابة إنسانية دؤوبة، استمرت رغم تراجع الدعم، ورغم تغير المزاج الدولي، ورغم ما أحدثه اللجوء من ضغط على البنية والخدمات. هذه الاستجابة ليست مجرد سياسة، بل سردية هوية تقول: هنا بلد لم يخذل الإنسان، حتى حين كاد أن يُخذل هو نفسه.

بين السيادة والحماية: النموذج الأردني المتوازن

في معادلة اللجوء، تبدو السيادة والحماية كضفّتين متقابلتين: حماية اللاجئ تقتضي الانفتاح، لكن السيادة تفرض الحذر. غير أن الأردن، بخطوات محسوبة، اختار أن يمشي فوق هذا الحبل المشدود دون أن يسقط في تناقضاته.

منذ توقيع مذكرة التفاهم مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عام 1998، ثم تحديثها لاحقًا عام 2014، بنت الدولة الأردنية نمطًا خاصًا في التعامل مع ملف اللجوء، يزاوج بين الانخراط الإنساني والاحتفاظ بالقرار السيادي.
فهو لم ينضم رسميًا إلى اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، ومع ذلك، التزم بمعظم ما تفرضه من مبادئ. لم يمنح اللجوء صفة قانونية دائمة، لكنه لم يُغلق الباب في وجه المحتاج للحماية. وهذا التوازن هو ما يُعرف اليوم بـ”البراغماتية الإنسانية” التي يتفرد بها الأردن.

قد تبدو هذه السياسة رمادية في عيون البعض، لكنها في الواقع تعكس وعيًا دقيقًا بالتحديات السياسية والديموغرافية والاقتصادية، وتُترجم حرصًا على عدم تعريض النسيج الوطني لأي هزّات مفاجئة. فاللجوء في الأردن ليس قضية حدود، بل قضية دولة بأكملها، تحرص على ألا تتحول الكرامة الإنسانية إلى خطر استراتيجي.

وفي هذا السياق، كان موقف جلالة الملك عبد الله الثاني واضحًا لا لبس فيه أثناء كلمته في المداولات العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة، حين قال:

اللاجئون يشكلون أكثر من ثلث سكان الأردن، والمسؤولية في التعامل معهم تقع على عاتق الجميع، لأن العالم لا يملك ترف التهرب من مسؤوليته ليترك جيلا ضائعا[1]“.

كلمات تلخّص المعادلة الدقيقة التي يخوضها الأردن: الالتزام الأخلاقي دون التفريط بالسيادة، والانفتاح دون التورّط، والاحتضان دون الذوبان.

النموذج الأردني ليس مثاليًا، لكنه واقعي، نابع من إدراك أن اللجوء ليس فقط عبئًا مؤقتًا، بل واقع طويل الأمد يتطلب ضبطًا حكيمًا لا يغفل كرامة اللاجئ ولا مصالح الدولة. وهنا تكمن الفرادة: في القدرة على أن تبقى إنسانيًا دون أن تفقد صلابتك، وعلى أن تحمي دون أن تتقوقع.

الكرامة في التعليم والعمل والصحة: جهود الأردن رغم التحديات

حين يصبح الزمن مؤقتًا إلى ما لا نهاية، يصبح الحفاظ على الكرامة مهمة شبه مستحيلة. ومع ذلك، حاول الأردن في ملف اللجوء أن يُبقي على خيطٍ رفيع من الأمل يمتدّ عبر المدرسة، والمشفى، وسوق العمل، ليقول للاجئ: قد لا أملك الكثير، لكنني لا أقبل لك الانكسار.

في التعليم، لم تكن المدارس الأردنية مستعدة لاستقبال عشرات الآلاف من الأطفال اللاجئين، لكن الدولة وسّعت الصفوف، وفعّلت نظام الفترتين، وخصّصت موارد استثنائية في أكثر المناطق اكتظاظًا.

ورغم كل ما يثقل كاهل الدولة، لم تغب الجامعات الأردنية عن مشهد الدعم. فقد قدّمت مؤسسات التعليم العالي منحًا جزئية وكاملة للاجئين، خاصة السوريين، بدعم من جهات دولية ومنظمات مانحة، لكنها بقيت منفتحة بروحها المؤسسية على فكرة أن التعليم العالي ليس ترفًا، بل مسارًا لبناء الإنسان ما بعد الأزمة.
في الجامعة الأردنية، وجامعة اليرموك، ومؤتة، وغيرها، جلس اللاجئ إلى جانب الطالب الأردني، لا كضيف ثقيل، بل كفرد يحق له أن يحلم بمستقبلٍ أفضل، حتى في أكثر اللحظات غموضًا.

وفي كثير من الحالات، لم يكن اللاجئ هو المستفيد فقط، بل الجامعة نفسها، التي أعادت اكتشاف دورها كفضاء للتمازج الإنساني والنهوض الاجتماعي.

أما في العمل، فقد شكّل الأردن سابقة دولية بإطلاق “تصاريح العمل للاجئين السوريين” عام 2016، ضمن اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي. خطوة لم تقتصر على فتح أبواب الرزق، بل عكست رؤية ترى في تمكين اللاجئ دعمًا لاستقراره وأمن من حوله.
ورغم التحديات، فإن منح تصاريح العمل في قطاعات الزراعة والبناء والصناعة كان اعترافًا عمليًا بأن الكرامة تبدأ من الحق في السعي.

في الصحة، قد لا تكون الخدمة مجانية دائمًا، لكنّها حاضرة، وفي متناول من لا يجدها في غير الأردن.
في المخيمات، أنشئت عيادات ومراكز توليد ومراكز نفسية. وفي المدن، سُمح للاجئين بدخول المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية برسوم مدعومة. حتى مع تقليص التمويل الدولي، لم يُغلق الباب.

هذه الخدمات، وإن كانت محدودة، هي امتداد لفلسفة ترى في الإنسان قيمة تستحق الدعم لا الرقم الذي يُضاف إلى التقارير الدولية.

نحو رؤية وطنية ودولية شاملة لحماية الإنسان

لم يعد اللجوء في الأردن ملفًا طارئًا أو ظرفًا استثنائيًا. هو اليوم جزء من النسيج المجتمعي والاقتصادي للدولة، حاضرٌ في التخطيط والسياسات، وفي تفاصيل الحياة اليومية للمواطن واللاجئ معًا.

لكن التعامل مع اللجوء بمنطق الاستجابة المؤقتة لا يكفي، لأن جوهر القضية لا يكمن فقط في إدارة الوجود، بل في صياغة موقف أخلاقي واستراتيجي يحمي الإنسان، ويصون حقه في وطنه، ويرفض تحويل التهجير القسري إلى واقع دائم.

جلالة الملك عبد الله الثاني، في عدة مناسبات، أشار إلى هذه البوصلة الأخلاقية مجددًا، حيث قال في خطابه خلال المناقشة رفيعة المستوى للدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة:

“اسألوا أنفسكم: إذا لم نكن أمما متحدة بالقناعة والإيمان بأن جميع البشر متساوون في الحقوق والكرامة والقيمة، وأن جميع الدول متساوية أمام القانون، فما هو العالم الذي نختاره لأنفسنا؟[2].

بهذا المعنى، فإن الرؤية التي يحتاجها الأردن والمنطقة ليست وطنية فقط، بل رؤية وطنية ودولية متكاملة، تتشارك المسؤولية، وتُعيد الاعتبار لكرامة الإنسان أينما وُجد.

رؤية لا تقوم على رد الفعل، بل على التخطيط العادل والالتزام طويل الأمد.
رؤية تعترف بأن حماية اللاجئ ليست بديلًا عن عودته، وأن كرامته في منحه فرصة للحياة، لا في تثبيت غربته.

إن بناء سياسة متوازنة في هذا السياق لا يعني التخلي عن الحذر، بل ترسيخ العدالة:
عدالة في توزيع الموارد، عدالة في تمكين اللاجئ، وعدالة في حماية المجتمعات المستضيفة من أن تدفع وحدها ثمن أزمة لم تخلقها.

وقد تكون البداية من:

  • إطار قانوني دولي واضح يُنظّم الوجود ويحفظ الحقوق دون تهديد للسيادة.
  • برامج تمكين وإنعاش اقتصادي، تزرع الأمل بدل انتظار المساعدات.
  • شراكة حقيقية مع المجتمع الدولي، تقوم على التزام لا على موسمية، وعلى دعم مستقر لا على التصفيق من بعيد.
  • رفض مطلق لأي حلول تتجاوز حق اللاجئ في العودة إلى بلده، مهما طال أمد اللجوء.

فاللجوء ليس قدرًا محتومًا، ولا يجب أن يُستخدم كذريعة لطمس الحقوق، بل كجرس إنذار للعالم كي لا يتخلى عن مسؤوليته أمام الإنسان.

وقد أثبت الأردن أنه، رغم كل الضغوط، صاحب موقفٍ، لا فقط صاحب قدرة. دولةٌ اختارت أن تحمي، لا أن تُغلق الباب.
وما تحمله من تعب، هو في جوهره دفاع عن إنسان، وعن حقٍ، وعن خيط ضمير لا يجب أن ينقطع.

الخاتمة

أن تكون دولة صغيرة في الجغرافيا، محاطة بالأزمات، محمّلة بضغط اللجوء لعقود… ثم تختار، رغم ذلك، أن تبقى إنسانية—فهذا ليس قرارًا سياسيًا فقط، بل اختيارٌ أخلاقيّ يعكس من تكون.

لقد قدّم الأردن نموذجًا فريدًا في الموازنة بين السيادة والرحمة، بين الإمكانيات المحدودة والواجبات الممتدة، وبين حاجته إلى الدعم وتمسّكه بثوابته.

وفي لحظة يتراجع فيها الضمير الدولي، يظلّ الأردن شاهدًا على أن الكرامة لا تحتاج ثروات، بل رؤية، وصبر، وإيمان عميق بأن الإنسان، أيّ إنسان، يستحق أن يُمنح فرصة للحياة.

هذا ليس مجرّد موقف، بل سرديّة دولة… وضوءٌ لا ينطفئ في زمنٍ كثر فيه العتم.

المراجع:

  1. الأمم المتحدة. (2023، 19 سبتمبر). العاهل الأردني يدعو المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته حيال اللاجئين. أخبار الأمم المتحدة. https://news.un.org/ar/story/2023/09/1123782
     
  2. الأمم المتحدة. (2024، 24 سبتمبر). الملك عبد الله: الأمم المتحدة تتعرض للهجوم وتواجه أزمة تضرب صميم شرعيتها. أخبار الأمم المتحدة. https://news.un.org/ar/story/2024/09/1134861

[1] الأمم المتحدة. (2023، 19 سبتمبر). العاهل الأردني يدعو المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته حيال اللاجئين. أخبار الأمم المتحدة. https://news.un.org/ar/story/2023/09/1123782

[2]  الأمم المتحدة. (2024، 24 سبتمبر). الملك عبد الله: الأمم المتحدة تتعرض للهجوم وتواجه أزمة تضرب صميم شرعيتها. أخبار الأمم المتحدة. https://news.un.org/ar/story/2024/09/1134861